سؤال الهوية في مصر

00:52 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

يطفو على السطح في أوساط المثقفين والمفكرين في مصر؛ بل وفي بعض الدول العربية الأخرى، سؤال حول الهوية المصرية، وأين تقع بين الأعمدة المتعددة للبناء الحضاري لتلك الدولة العريقة؟ ويزداد السؤال إلحاحاً كلما تعرض أحد عناصر تلك الهوية لهزات عنيفة سواء كانت عربية بالنسبة للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، أو كانت إسلامية مثلما هو الأمر بالنسبة لقضايا القدس والأقصى و«الإسلاموفوبيا»، ثم تتردد مرة أخرى على المستوى المصري الإفريقي، عندما نتحدث عن سد النهضة، وتداعيات إنشائه وملابسات إقامته؛ لذلك فإنه يحسن أن نطرح السؤال حتى نجيب عنه بقدر ما يتاح لنا من اجتهاد في التفكير ورؤية للمستقبل.

فالدولة المصرية هي سبيكة منسجمة من شرائح تاريخية ورقائق حضارية، عرفها التاريخ وساندته الجغرافيا، اندمجت كلها بشكل متجانس لا نكاد نجد له نظيراً في كثير من شعوب الكوكب، وحتى افتعال التقسيم الوهمي بين مسلمين ومسيحيين في مصر لم يحقق نتيجة ترضي أصحابها؛ بل ظلت الأحداث الطائفية محدودة لا تعبّر عن تيار عام في أيٍ من الجانبين، حتى أن عروبة الأقباط لم تعد مجال تساؤل، فقد حسمت منذ عقود طويلة عندما زار مكرم عبيد (باشا) سكرتير عام حزب الوفد، حزب الأغلبية في مدن الشام الكبرى في سوريا ولبنان، وألقى خطباً شدت الانتباه بفصاحة لسانه، ووضوح رؤيته، ليؤكد أن الأقباط جزء من نسيج المنطقة العربية شأنهم شأن مسيحيي الشام الذين كانوا حملة لواء القومية العربية.

وقد كان استقبال خطاب مكرم عبيد، نقطة تحول في توصيف عروبة الأقباط، إلى أن جاء البابا قوي الشكيمة غزير المعرفة شنودة الثالث الذي احتفلنا بمئوية ميلاده هذا العام، ليكرّس بقوة عروبة الأقباط، ويتخذ موقفاً من إسرائيل لا تباريه فيه مؤسسات دينية أخرى. ومنذ ذلك الحين والكنيسة القبطية المصرية رقم صعب بين مفردات القضية العربية الأولى، وأعني بها القضية الفلسطينية؛ لذلك فإن البعد العربي لم يعد محل تساؤل وإن كانت الأحداث الدامية التي تجري على أرض فلسطين والتضحيات الكبيرة التي يدفعها ذلك الشعب المناضل، تثير بين حين وآخر مخاوف مصرية كامنة من مزيد من التورط في هذه القضية التي تبدو قضية مصرية مصيرية، وليست مجرد قضية قومية عربية.

لذلك دفعت مصر - الملكية والجمهورية - ثمناً غالياً، لمواجهة ذلك الصراع الذي امتد عبر قرن كامل حتى الآن، وأنا لست من دعاة الحرب ولا من راغبي الصدام الدائم مع إسرائيل، ولكني ألفت النظر إلى أن المسؤولية الأولى تقع عليها بالدرجة الأولى، فهي لا تريد الحل إلا بالقهر، ولا تريد السلام إلا بالسيطرة.

إنني أثير قضية الهوية في هذه الظروف، لكي ألح على الانتماء الجغرافي والتاريخي والثقافي الذي يتجسّد حالياً في أن مصر جزء من أمتها العربية، وأن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى للعرب في العصر الحديث، وأضيف إلى ذلك أن هذه القضية المركزية تكاد تلح على العقل المصري؛ بحيث تصبح قضية مصرية أيضاً، ويكفي أن نتذكر تضحيات المصريين عبر العقود الأخيرة حرباً وسلماً من أجل استعادة الحقوق السليبة لواحد من أبسل شعوب الأرض، وأعني به الشعب الفلسطيني.

القضية الفلسطينية ذات أبعاد متعددة الجوانب؛ فهي قضية سياسية بالدرجة الأولى، وتحت مظلة قومية شاملة تجمع في إطارها العالمين العربي والإسلامي إضافة إلى تعاطف إفريقي مع الشعب الفلسطيني الذي يسعى إلى تقرير مصيره، وتحرير أرضه، والسيطرة الكاملة على ترابه الوطني، لكن إسرائيل كالمعتاد تريد تصدير الكارثة الأخيرة إلى الحدود المصرية، لتضرب عدة عصافير بحجر واحد. فمصر هي عربية اللسان، مسلمة ومسيحية الوجدان ترتبط بما يمكن اعتباره رمزاً للتوحد في الذات المصرية التي تتميز عن غيرها في التوفيق بين انتماءاتها المتعددة وولاءاتها المختلفة إلا أنها تبقى عربية بدورها القومي الذي لا يجادل فيه أحد، ومؤمنة بأزهرها الشريف وكنيستها القبطية وإفريقية الموقع؛ حيث تقع على الناصية الشمالية الشرقية للقارة السمراء.

إنني أطالب بالتوقف عن الهرطقة واللغو في قضية الانتماء؛ لأن المصريين يدركون كما يدرك غيرهم أن العروبة قدر ومصير وحياة ولكن تبقى الوطنية المصرية حقاً تاريخياً لا يتراجع ولا يهتز.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yvhscrmf

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"