عادي
ضيف الشرف

شعر كوريا الجنوبية.. تغريد العصافير

23:25 مساء
قراءة 7 دقائق
كو أون

الشارقة: يوسف أبولوز

قبل أن أتجوّل بين عدد من النصوص الشعرية الكورية، أودّ الإشارة إلى أن القارئ في الإمارات سبق وأن تعرّف إلى الشعر الكوري من خلال صدور كتابين بهذا الخصوص الأدبي الآسيوي، ففي عام 2011 صدر كتاب بعنوان «مختارات من الأدب الكوري الحديث» لنخبة من الكتّاب الكوريين عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، وصدرت ضمن سلسلة مجلة «دبي الثقافية» قبل سنوات ترجمة لنحو 60 قصيدة للشاعر الكوري «كو أوْن» المرشح أكثر من مرة لجائزة نوبل للأدب، وأنجز تلك الترجمة الحرفية المترجم والشاعر المصري أشرف أبو اليزيد، وصدر الكتاب بعنوان «ألف حياة وحياة».

سأعتمد في قراءتي النصية لعدد من قصائد «كو أوْن» على ترجمة أشرف أبو اليزيد الذي نشأت بيني وبينه صداقة عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، فقد اهتممت شخصياً بقراءة الشعر الكوري فور أن عرفت قبل نحو أربعة أشهر أن كوريا الجنوبية ستكون ضيف شرف معرض الشارقة الدولي للكتاب، ومن هذا الخيط، توصلت إلى أشرف أبو اليزيد، فكتبت في عمودي اليومي في جريدتنا «الخليج» قبل شهور عن الشاعر الكوري وشعره وترجمته، لتصلني رسالة من زوجة الشاعر فيها الكثير من الود والإضاءة على «كو أون» الذي يستحق فعلاً نوبل.

قبل الدخول إلى عوالم هذا الشاعر العجوز، لكن الشاب كتابياً وقلبياً، وأيضاً، قبل الدخول إلى عوالم شعراء كوريين آخرين حصلت على نصوصهم من الموقع الإلكتروني الحيوي «القصيدة كوم».. قبل كل ذلك قرأت في موسوعة المعرفة الإلكترونية، أن بعض الأعمال الشعرية الكورية تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهو ما تدل عليه قصيدة «تغريد العصافير الصفراء» التي نظمها باللغة الصينية الملك يو ري، غير أنني لا أثق كثيراً بالمواقع الإلكترونية، ولأنه لا يوجد الكثير من الكتب الكورية الأدبية أو الثقافية التي تدلنا بكل موثوقية على تاريخ اللغة الكورية، فقد صار لزاماً أن أكو كان حذراً تماماً تجاه أي معلومة من هذا النوع إلى أن أطمئن إلى أكثر من مصدر، وهذا ما كان، لأعرف من هنا وهناك، أن الكتابات الشعرية الأولى بالنسبة للكوريين كانت بالصينية، وأحياناً باليابانية إلى أن جاء القرن الخامس عشر واستخدمت في كوريا لغة تعرف باسم «هانغل» على يد ملك يُدعى: سيجونغ العظيم. «بحسب الويكيبيديا».

لغة مقطعية

اللغة الكورية لغة مقطعية «أبجدية مقطعية» أي أن الكلمة أو الجملة لا تتألف من حروف؛ بل تتألف من مقاطع.

تقول مصادر لغوية أخرى أن «هانغل» الذي هو اسم اللغة الكورية يتألف من «هان: وتعني عظيم» و«غل: وتعني كتابة».. أي الكتابة العظيمة.

أفهم بالتدريج، أن اللغة الكورية، التي يتدخل ملوك في قرار فرضها على المجتمع الكوري، هي لغة تحررت من هيمنة لغوية استعمارية تمثلت في اللغتين: الصينية واليابانية، لكن الجميل هنا، أن الشعر يسهم بقوة في استقلالية لغات الشعوب، وهذا ما جرى للغة الكورية التي ازدهرت، وأخذت تشهد نمواً ثقافياً في كوريا؛ وذلك مع ظهور وازدهار شعر يسمى «شعر السيجو» الذي وجدت له تعريفات مقتضبة وبالغة الإيجاز في مصادر ثقافية متفرقة، وعلى أي حال فإن «شعر السيجو» الذي أسهم في ازدهار اللغة الكورية يتألف من ثلاثة أسطر للقصيدة الواحدة، وهو بالنسبة للكوريين شعر يعبّر عن شخصيتهم التراثية، وهو بذلك، في رأيي أو من خلال استنتاجي يشبه شعر «الهايكو» الياباني، مع الاختلاف، بالطبع، في المعنى الروحي للقصيدة، وكذلك، الاختلاف في الوزن.

بهذه الصورة المكثّفة والسريعة لجذور اللغة الكورية، وجذور الشعر الكوري «السيجو».. لا أرى شبهاً أو مقاربات جوهرية بين الشعر العربي، والشعر الكوري، لكن، يظل الشعر الآسيوي عموماً، ومنه بالطبع الكوري، ينبض بروح شرقية إلى حد كبير تقترب من روح الشعر العربي. العرب آسيويون، وأفارقة، ودمهم الشعري في مثل حرارة الدم الآسيوي الكوري على العكس تماماً من طبيعة الشعر الأوروبي، أو الأمريكي الذي تنتابه في الكثير من الحالات ظواهر مادية، أو تجريدية، أو عبثية أو حتى فوضوية هي معاً ليست موجودة في طبيعة الشعر العربي والآسيوي، وبالتالي الشعر الكوري.

معرفة

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، فعلاً، هو:.. هل يعرفنا الكوريون جيداً، هل يعرفون الرواية والشعر العربيين؟؟، من حيث الرواية العربية يشكّل فوز نجيب محفوظ بنوبل للأدب في عام 1988 دعاية لها.. ولكن الرواية العربية ليست كلها محفوظ، الشجرة ليست دائماً تغطي غابة، والثقافة العربية ليست نكرة حضارية بين الشعوب.

قرأت حواراً أكثر من موسّع مع الشاعرة الكورية «كيم سينغ هِيْ» أجراه معها الشاعر نوري الجرّاح قبل نحو خمس سنوات، وفي الحوار ثمة ما يدلنا على معرفة الكوريين بنا، وهي شاعرة في نحو السبعين من عمرها، وتبدي سرورها حين سمعت أن قصائد من شعرها نقلها إلى العربية د. محمود عبد الغفار أستاذ في قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، وتقول في حوارها مع الجراح إن بعض الكوريين يدرسون اللغة العربية في الجامعات الكورية، ومع ذلك تقول إنه لا يوجد إلا القليل من الأعمال العربية الأدبية مترجمة إلى الكورية.

تقول «سينغ هي» إنها قرأت ألف ليلة وليلة وفي شبابها قرأت بعض مؤلفات جبران خليل جبران، وتقول إن الكوريين يحرصون على قراءة جبران، وهي قرأت بشغف كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، وقرأت أدونيس:.. «وقصائده صعبة الفهم بسبب ميله الشديد إلى الحداثة».

على أي حال هي فرصة من خلال هذا الحوار الطويل أن نعرف شيئاً من الشاعرة نفسها عن طبيعة الشعر الكوري فتقول إن شعراء جيلها من السبعينات والثمانينات تغنّوا بحلم الديمقراطية، وتقول أيضاً إن شعراء جيلها انتقدوا بجرأة الجوان بالسلبية الناتجة عن عملية التصنيع وتقول إن بعض الشعراء الكوريين يستندون إلى مذهب الواقعية، وهناك آخرون تبنّوا مذهب الحداثة، ونعرف منها أن من بين قضايا الشعر الكوري تبرز قضايا العمّال والفلاحين والنساء.

ظواهر

من المهم أن نعرف مثل هذه الحالات أو الظواهر في الشعر الكوري بلسان شاعرة كورية، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون.

وما دمنا في حضرة الشاعرة الكورية «كيم سينغ هي» فلنقرأ قبساً من شعرها من ترجمة محمود عبد الغفار إلى العربية.. تقول:

«الحرية؟؟.. إنها سوء فهم

من منتهى الأرض إلى البحر

ومن البحر إلى السماء

على هذه الشاكلة، أمحو كل أوراق الرسم،

وكما المرّة الأولى أتطلع إلى الموجة الزرقاء والسحب البيضاء.. والنوارس.. هذا سوء فهم..».

نلاحظ هنا بالطبع، تخفف الشعر من الغنائية والبلاغة الأدبية الأقرب إلى «الرومانسية»، وذهاب الشاعرة مباشرة إلى الفكرة المجردة، لكن لهذه الشاعرة السبعينية قصيدة جميلة تعرّف بالشعر نفسه، والقصيدة من أجمل التعريفات بهذا الفن الإنساني العالمي العظيم، تقول: «الشعر غرفة إنعاش../.. خيمة أوكسجين../.. دم أحمر في تفاحة ساطعة../.. وما يشبه السماء الحزين../.. يُنثر هنا، وهناك حول القصيدة..».

تعد الشاعرة «شينجي مون» شاعرة أمريكية «مواليد 1995»، لكنها من أصل كوري، ونقل بعض شعرها إلى العربية ضيّ رحمي، هنا نقرأ مقطعاً من قصيدة بعنوان «تقرير عن شخص مفقود»:

«كانت ترتدي معطفاً أحمر

يقال إن لها عيني أمها

عينا أمها كانتا منتفختين

تقول أمها إن لها أسنان أبيها

التي لم تكن تامة الاستواء..ظهيرة الجمعة، قبل هطول المطر، وجدها صياد

كانت أمها تعتقد أنها تشتري قفازاً

جسد شبه المرأة وجد ملفوفاً بأعشاب البحر

حُمل إلى الشاطئ في وعاء من الزبد

رئتاها كانتا مثل أكورديون من الأوريجامي مُدت فوق الحجارة الرمادية

أخرجها الصياد من شرنقتها البحرية

شكرته بلطف، ومشت».

ولدت الشاعرة الكورية «لي سوميونج» في عام 1965، ونقلها إلى العربية محمد نجيب، هذه قصيدة لها بعنوان «رقصة الأسنان»:

حين كان يعود إلى بيته، كان يخلع أسنانه دائماً، يقف أمام مرآة الحمام مبتسماً بفم خالٍ من الأسنان، بينما يضع أسنانه داخل كأس من الماء، عندما يأتي الصباح، يعيد تثبيت أسنانه، واحداً تلو الآخر ثم يغادر إلى عمله.

في إحدى الأيام استغرق في النوم بعد عودته من العمل من شدة التعب. استيقظ فجأة على صوت غريب قادم من الحمام، غادر فراشه ليرى مصدر الصوت، فوجد أسنانه تصطدم ببعضها البعض مصدرة جلبة أثناء رقصها، تحدث الرجل: «يبدو ذلك ممتعاً للغاية. افسحوا مكاناً لي» أجاب كل سن: فلتنضم إلينا. رقص الرجل طويلاً مع أسنانه.

.. وبالإجمال وجدت أن القصيدة الكورية النسوية إن جازت العبارة أكثر خفة أو أكثر غنائية وشفافية من قصيدة الرجل، وجدت هذه القصيدة الكورية بأقلام نسائية قريبة من ذاكرتي الشعرية العربية أو أن في هذه القصيدة دفئاً إنسانياً كنت قد استشعرته في الكثير من القصائد العربية.

مفصل

إذا كان يمكن لشاعر بمفرده أن يكون ظاهرة شعرية في بلده على الأقل، فإن ذلك ينطبق على الشاعر الكوري «كو أون»، ويقول أشرف أبو اليزيد شبه المتخصص؛ بل ربما المتخصص في ترجمة شعر هذا الشاعر الكهل ولكن المملوء بالحيوية الأدبية.. يقول أبو اليزيد لإنه لا يذكر الشعر الكوري المعاصر إلا ويذكر أميره كو أون، وعلى الرغم من أنه لا يوجد أمراء للشعر إلا عند العرب، فإن كو أون هو على الأقل ظاهرة شعرية في بلده كما ذكرت قبل قليل.

من إحدى أمنيات كو أون الشعرية بالطبع أن يصبح ذئباً حين يكتمل القمر، غير أن شعر الرجل لا يشير إلى أي ذئبية في شخصيته أو في أدبه.. إنه شاعر الكائنات، هكذا قرأته أنا على الأقل إنه شاعر الضوء، والليل، والنجوم؛ بل إنه شاعر المتاهات، ولكن ليس على طريقة متاهات بورخيس؛ بل متاهة كو أون هي متاهة الماء: يقول:

كنت أجدّف بمجداف وحيد حتى فقدته ولأول مرة، تلفَّت حولي، وأنا في متاهة المياه الشاسعة.... هو أيضاً شاعر إنساني يلمس بأقل الكلمات الروح المضطربة للإنسان.. يقول:

أمام نافذة محل للتصوير

كانت هناك امرأة عاقر

تحدّق مبتسمة في صورة طفل عمره عام.

شاعر «أقل الكلمات» هذا هو أيضاً شاعر الصور المكثّفة، الموجزة، الهادئة بلا صخب البلاغة، وبلا تعقيد أو تقعير للغة التي يكتب بها.. يقول: ماذا تظنين أنك فاعلة بهبوطك هكذا على ظهر يدي، وأنا أكتب رسالة لابنتي؟ أنت أول زائرة في ربيع هذا العام أيتها الفراشة الصفراء...

بشكل عام يشبه شعر كو أون شعر الهايكو أو أنه متأثر به أو أنه امتداد لشعر السيجو الكلاسيكي القديم في الذاكرة الكورية، ولكن، مهما كانت مرجعيات أون يظل الرجل تاريخياً شاعر مراحل عديدة مر فيها شعر العالم كله، وهو يقترب من التسعين، ولديه القدرة الديمومية على كتابة شعر – ملحمي، وكتابة شعر آخر في مثل كثافة الهايكو.

مناخات

من خلال ترجمات أبو اليزيد نتعرّف أيضاً إلى شاعر كوري آخر هو «مانهي 1879 1944»، بالطبع أقدم تاريخياً من كو أون، ويذكر أن هذا الشاعر قد ترهبن أو انخرط في سلك الرهبنة، وكتب باللغتين الصينية، والكورية.. هذا مقطع من مناخات «مانهي»:

يقول: لقد حاولت أن أصون سراً عنك

لكن لم أفلح

عبر دموعي تخلل سري إلى عينيك

وعبر أنفاسي تسرّب سرّي إلى أذنيك

وعبر صدري النابض.. لامست سرّي

الآخر.. أصبح قطعة من قلبي الأحمر...

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4zc9vwra

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"