عادي
ضفة القراءة

لويس أراغون.. مجنون غرناطة

23:24 مساء
قراءة 4 دقائق
لويس أراغون
لويس أراغون

الشارقة - يوسف أبولوز

وضع الشاعر الفرنسي لويس أراغون 1897-1982 أربعة كتب في كتاب واحد هو «مجنون إلسا».. أما الكتب الأربعة في هذا السِّفر الغرناطي المدهش فهي: كتاب في النثر، وكتاب في الشعر، وكتاب في السرد، وكتاب في الحب، وهذه التقسيمات من عندي أنا قارئ هذا الكتاب، وليس من عند الشاعر الذي جعل من خروج أبي عبدالله الصغير من الأندلس فردوساً لولبياً من الكتابة، فالكتاب كتابة حرة مفتوحة على أجناس متداخلة، ولكن يلظمها معاً خيط واحد هو الشعر.. أو الشعرية المتدفقة والحلزونية، مثل مياه النوافير في الحمراء وقرطبة، وتحديداً في غرناطة، ومعناها: الرمانة.

عندما نقرأ عن الأندلس لا نرتوي أبداً

مرة ثانية، هذا واحد من الكتب القديمة - الجديدة في معرض الشارقة الدولي للكتاب، وقراءته الواحدة تجذب إلى قراءات عديدة، كأنك لا ترتوي أبداً من مياه الأندلس، ولا تشبع من الرمان الذي ينفرط بين يديك وأنت تقرأ ثم يعود ملموماً أحمر وهّاجاً في هذه الكتابة الزوبعية التي يعقبها المطر دائماً، وزاد من مائية هذا الكتاب تلك الترجمة الصورية للكتاب التي أنجزها د. سامي الجندي. وعلى الرغم من صعوبة الكتاب، وصعوبة قراءته «420 صفحة من القطع الكبير»، فإن الجندي أقدم على ترجمة الكتاب وهو يقول: «تلك ترجمة حرفية لأصعب كتاب فرنسي مما أعلم أو قرأت» وهناك حافز أخلاقي للترجمة عند الجندي، وهو حافز نبيل نحترمه عليه، فهو يقول إنه ترجم هذا الكتاب الصعب ليثبت أن اللغة العربية قادرة بمرونتها العجيبة على كل الألوان مهما كانت فذلكة الكتاب.

وفي الكتاب قصة حب بل قصص حب، وفي الكتاب صف من المرايا، وفي الكتاب خيول وشعراء وجوع، وفيه أثر من القرآن الكريم، وفي الكتاب فلاسفة مسلمون، وفيه يلمع فكر ابن رشد، وفي الكتاب ومضات من الحكمة: يقول أراغون: «المعرفة تنقص على قدر ما تزداد..»، ويقول: «الشعلة مستقبل القنديل»، ويقول: «.. من الثورات تنبثق الإمبراطوريات»، ويقول: «.. إذا كان شبيهك نتناً فلسوف تنتن مثله..»، وأخيراً وليس آخراً يقول: «الحب هو أن نفقد العقل..».

أما لويس أراغون، فهو في الكتاب كأنما هو شاعر عربي أندلسي غرناطي وليس فرنسياً، هكذا تبادر لي ليس من باب المباهاة الساذجة بعربيتي أو عروبيتي، بل، سوف يتاح لي قبل يومين في أحد أروقة معرض الشارقة الدولي للكتاب أن التقي الكاتب والباحث والأكاديمي د. خوسيه ميغيل بويرتا «مواليد قرية (دوركل) جنوبي غرناطة عام 1959، وكان مشاركاً في المعرض بالندوة الدولية الثانية لمجلة «الناشر الأسبوعي» الصادرة عن هيئة الشارقة للكتاب، وسألته عن رأيه في كتاب أراغون حين عرفت أنه من مواليد جنوبي غرناطة، فقال لي لا تستغرب أن يكتب أراغون هذا الكتاب الغرناطي فجذوره مورسكية، لا بل توجد كما قال لي د. ميغيل في إسبانيا مقاطعة اسمها «أراغون» بالقرب من الباسك، وهذا الإقليم هو بلد الملك الإسباني فرديناند وزوجته إيزابيلا اللذين شهدا خروج أبي عبدالله الصغير من الأندلس، واستلما منه مفتاح غرناطة.

أعود إلى كتابي الغرناطي هذا، وأبدأ من كتاب الحب.. يقول أراغون: «لا أستطيع أن أحبك أبداً../.. لطول ما أحبك، بلا حراك أنتظر فجرك بعد الفجر

أمسك إلى ما لا نهاية بذراعك الحلو في يدي

آنئذٍ يزهرُ فيّ شيء لا يوصف

وعلى شفتيك أرى شحوب الغد».. ويقول في مكان آخر: «شعلة الحب الحية../ من أجلها خلق القنديل».

«مجنون إلسا» يتماهى في هذا الكتاب مع مجنون ليلى، وحين يتحدث أراغون عن مثل هذا التماهي «حد الجنون» شعراً ونثراً، فهو يوضح لنا لماذا مزج الشعر بالنثر في هذا الكتاب المركب.

  • دلالات

ولكن ماذا عن كتاب آخر في هذا الكتاب، ودعني أسميه «كتاب المرايا» على أن للمرآة دلالة صوفية عن شعراء وناثري التصوف، وفي أراغون شيء من التصوف حين يقول «الله في الذي ينكره»، أما «المرآة» فترد بالكتاب في أكثر من خمسة مواضع.

عند أراغون فإن مستقبل الإنسان هو المرأة وليس الملوك. وفي رأيي كقارئ، ما الذي فعله الملوك للأندلس، هاهو أبو عبدالله الصغير يترك عرشه وهو يبكي حين قالت له أمه:

- ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً

لم تحافظ عليه مثل الرجال

يقول أراغون: «كان أبو عبدالله قد خرج من الحمراء إلى بيته الصيفي في ظاهرة المدينة، ورأى من هناك خلية النمل المشتعلة واضحة وعجيج الرجال والخيل»، ولكن هيهات، فغرناطة والحمراء والعرش والنوافير لم تعد للملك.. إليك هذه الصورة للملكة إيزابيلا، وهي تقترب من المجد العربي الزائل:

«لما وصلت الملكة إيزابيلا إلى ينابيع القويطار في كل أبهة موكبها، وفيه ولي العهد دون خوان وأخواته الأميرات، تبدى أن كل جميل أقل مما يليق بها، ولقد قدم مركيز قادش خيمته التي بنيت في الوسط على هيئة برج من مخمل ارتفع فوق المعسكر على أعمدة من رماح ضُمت إلى بعضها من مخمل دمشقي من أغلى ما صنعته طليطلة، جدرانه كلها من حرير فضفاض، تحيط به غرف من نسيج مرسوم موشى بالبروكار..».

ليس كتاب «مجنون إلسا» كتاب تاريخ أو كتاب توثيق لخروج أبي عبدالله من الأندلس وزوال حكمه إلى الأبد، ثم استلام الملكين فرديناند وإيزابيلا زمام الحكم الإسباني في الأندلس. بل هو يمتزج فيه الذاتي بالجمعي كما في لغة النقد الأدبي. إنه مرة ثانية كتاب حب. كتاب شخصيات لم تكن موجودة أمام أولئك الملوك، بل، هو الشغف بغرناطة حد الجنون.. حد الجنون ب«إلسا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4vdf94ak

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"