الخط الفاصل للتقنيات الاقتصادية

22:43 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي*

لم يكن تاريخ الكهرباء مثيراً فقط لاهتمام الاقتصاديين الذين قاموا بتكوين الحركة الحديثة بل كان أيضاً يتضمن نوعاً من الإكراه أو الإجبار بالنسبة لهم. فيكفي فقط أن نتذكر أن فيزياء الكهرباء المغناطيسية كانت أكبر بعدد قليل من السنوات من علم الاقتصاد. فعندما كان آدم سميث يكتب «ثروة الأمم» في القرن الثامن عشر، كانت تلك الظاهرة لا تزال لغزاً غامضاً. لكن في عام 1864 قام الفيزيائي الأسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل ‏بتحقيق إحدى أهم الرؤى العلمية العظيمة في تاريخ العلم. إذ إنه قبل ذلك بثلاث ‏سنوات كان قد نشر تصميماً لنموذج میكانیكي أطلق عليه المجال الكهرومغناطيسى، وهو عبارة ‏عن لوح خشبي مربوط فيه عدد من العجلات الدوارة والعاطلة، والذي صمم لتمثيل القوة الفيزيائية. ‏ثم قام بتلخيص ‏النتائج التي توصل إليها في قليل من المعادلات المباشرة التي تصف العلاقات الأساسية بين ‏الضوء والكهرباء والمغناطيسية. لم تقم معادلات ماكسويل فقط بتوحيد ‏جميع القوانين المنفصلة السابقة، بل ذهبت لأبعد من ذلك، ‏حيث اقترحت وجود طیف كامل من ‏الطاقة لا يمكن أن تدركه الحواس الإنسانية. وفي السنوات ‏القليلة اللاحقة كان هناك جدل بين ‏الفيزيائيين حول حقيقة وجود ذلك الإشعاع في حقيقة الأمر. ‏وانتقد عديد من الفيزيائيين ذلك المنهج ‏البديهي والرياضيات الخيالية الجديدة الداعمة له. ‏

تغير فحوى المناقشات بشكل تام عندما تم إثبات ما وجده ماكسويل. بعد أن أجرى الألماني الشاب، هنريتش هيرتز ‏ ‏تجربة عبقرية، توصل خلالها، إلى وجود موجات كهرومغناطيسية يمكن التنبؤ ‏‏بها. هذه الموجات كانت شبيهة بالحرارة والضوء ولكن لا تمكن رؤيتها بالعين المجردة ‏، وبذلك استطاع هرتز أن يحقق نصراً تجريبياً حاسماً مساوياً لأي نصر في تاريخ ‏‏العلم، وذلك حسب وصف المؤرخ «جيليسبي» ‏C. C Gillispie‏ لهذا الاكتشاف في وقت لاحق. ‏‏ وهكذا تم اكتشاف قارة غامضة من الطاقة اللاسلكية على يد فيزيائي كانت لديه الجرأة على أن يتخلى عن ‏‏لوحه الخشبي المغطى بالعجلات المعدنية لصالح معادلاته الرياضية، والذي أكد على ذلك بتجارب ‏‏سارت على المنطق نفسه. ‏

وقد أدت معادلات ماكسويل إلى الاتجاه نحو عديد من الاتجاهات المختلفة - نحو نظرية النسبية ‏والميكانيكا الكمية من ناحية، ونحو وفرة من التطبيق العلمي من ناحية أخرى. وتم التوصل إلى ‏التلغراف اللاسلكي وتبع ذلك التوصل إلى الراديو. تم اكتشاف أشعة إكس، وتم تطوير النظرية ‏الكمية، والانشطار الذري، وكما تم اختراع الترانزستور وأشباه الموصلات. وقد قام ماكسويل ‏وهرتز وفيزيائيون آخرون بقيادة المخترعين والعلماء الصناعيين إلى الاعتماد بشكل أكبر على ‏الإدراك العلمي. ‏

وفي الوقت الذي كان التجريد العلمي يتحول بطريقة كبرى نحو التطبيق العملي، كانت ‏الرياضيات البحتة أيضاً، تحقق مساهمات غير متوقعة. وعلى سبيل المثال، فإن علماء ‏الرياضيات على حدود مادتهم في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، كانوا مهتمين بحل ‏المعادلات ذات العدد اللانهائي من القيم المجهولة، وكانوا يعملون على ما أطلقوا عليه نظرية دالة ‏‏«المساحات»، التي تضمنت واحداً من الأعداد اللانهائية للأبعاد - وهي حالة من التجريد ‏لأجل التجريد. وفيما بعد، في عام 1927، أثبت الشاب «جون فون نيومان» أن هذا النوع من ‏المعادلات قد يكون الأداة الصحيحة التي من خلالها يمكن حل التناقضات الواضحة في النظريتين ‏العمليتين المتنافستين للميكانيكا الكمية المكتشفة حديثاً - معادلة شرودنجير ‏‏للموجات ومصفوفات هيزينبرج ‏ الميكانيكية. وقد أطلق عليها «نيومان» «فضاء ‏هيلبرت» ‏تيمناً باسم معلم الرياضيات الألماني العظيم «دافيد هيلبرت»‏، ومن بين عدد كبير من المساهمات الخاصة ب«هيلبرت» في أوائل القرن ‏العشرين، قام هیلبرت بتطوير التصور مستغلاً الرابطة الغريبة بين علم الهندسة وعلم الجبر.

وبحلول العشرينات من القرن الماضي كانت مدارس الهندسة حول العالم تضيف أقسام العلوم ‏الأساسية والرياضيات إلى كلياتها. وبذات الاستعانة باستشارات الأساتذة دورياً في مجال الصناعة ‏. وقد كانت تلك الطريقة بجميع الوسائل عملية خطية صارمة، تصل فيها الاختراعات من أعلى ‏لأسفل. فقد كان توماس إديسون ‏وآخرون مثله يستخدمون فهمهم لما ‏أطلق عليه إديسون «العلم المعبأ إلى الأسفل» لتحقيق نتائج ‏ملحوظة. ولكن وبفضل معادلات ماكسويل تم الاتجاه نحو الممارسة، على الأقل في ‏الفيزياء - ويعود الفضل في ذلك للمنهج البديهي. ‏

وهكذا لم يكن من المدهش أن الاقتصادي الشاب الذي قام ببناء الخطط التفصيلية للبرنامج الحديث ‏‏في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي كان يتمنى أن يتبع النهج نفسه، وهو الشغف نفسه ‏‏الذي دعا «فرانك رامزی» إلى قراءة نظرية النسبية والتحليل النفسي ونظرية الأعداد الصحيحة ‏‏مطالباً بعضاً من ألمع معاصريه بأن يتبعوا المنهج البديهي. وأصبح من المتوقع ظهور اختراعات حديثة، ‏‏تماما كما ظهرت اختراعات «ويليام هارفي» و«جيمس كليرك ماكسويل». وفي عام 1892 قام «‏‏إيرفينج فيشر» ‏ببناء آلة هيدروليكية وزودها بالمضخات والعوامات والأنابيب ‏‏والعجلات ليشرح مبدأ التوازن العام في علم الاقتصاد - وهو الاعتماد المتبادل بين إحدى الحقائق ‏‏وجميع الحقائق الأخرى‏. في أواخر العشرينيات كان هذا يبدو غريباً. فالاقتصاد على الأقل في ‏بداياته، كانت كتاباته قد بدأت لأن تتحول بالكامل إلى الرياضيات الآن. الاقتصاد أيضاً ألقى ‏اللوح الخشبي بعيداً. ‏

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5a24dms6

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"