العالم عند مفترق طرق

00:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر

قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير في شأن القضية الفلسطينية، أثار من جديد، بين ما أثار، مسألة بالغة الأهمية؛ إذ جاء القرار في لحظة كثر فيها حديث خبراء العلاقات الدولية وبخاصة المهتم منهم بقضايا الشرق الأوسط عن المكانة المتراجعة للولايات المتحدة. لاحظنا أن في جانب من هذا الحديث اختار المتحدثون تبرير التراجع في المكانة، أو تفسيره، ضمن حالة أكثر شمولاً وعمقاً في التفاعلات الجارية في النظام الدولي، وهي ما صار يعرف بمزاج الانعزال لدى عدد متزايد من الدول الأعضاء في النظام الدولي، أوالدول الواقعة تحت عقوبة العزل والإبعاد عن فعاليات النظام بسبب الخروج أو الزعم بالخروج على القواعد المعمول بها.

حال الدول في النظام الدولي كحال الأفراد في النظام السياسي لكل دولة على حدة.

اهتم بمتابعة الظاهرة، وهي ليست جديدة أو طارئة على كل حال، باحثون ومفكرون في أنحاء كثيرة وتخصصات عديدة، من بينها علم النفس اهتموا بها. خرج هؤلاء علينا بأفكار مهمة يمكنني تلخيص بعضها فيما يلي:

*أولاً: تشهد معظم الدول في العقود الأخيرة زيادات مطردة في عدد سكانها. ازدحمت الطرق والمدارس ومواقع العمل ووسائل المواصلات. هذه الزيادات تسببت في ضغوط شتى على حرية الحركة والتنقل وصعوبات في خدمات التعليم والصحة وتضييق في مساحات العمل والرفاهة، تسببت بالتالي في ضيق؛ بل في أزمات نفسية حادة.

*ثانياً: شملت الزيادة قطاعاً مهماً من السكان وهم كبار السن. هؤلاء بطبيعتهم انعزاليون بالمزاج أو بالفرض المجتمعي. هؤلاء يضجون من الضجة والصخب المحيط بهم من كل مكان فيختارون، أو هم يجبرون على اختيار، الانعزال.

*ثالثاً: تفاقمت مشكلة الانفرادية وعلامات وتصرفات ناتجة عن الشعور بالوحدة بين سكان دول تعرضت مؤخراً لأوبئة مثل كورونا أو لكوارث طبيعية.

*رابعاً: لا جدال أنه في غياب التعددية السياسية والأحزاب والنقابات وأجهزة التواصل الإعلامي وحريات التعبير والتنقل يزداد ميل الإنسان للتقوقع والانفراد في التصرف، وبالتالي يتفاقم شعوره بالوحدة ومعه الرغبة في الاختفاء أو عدم المشاركة وفي النهاية يغلب اليأس والإحباط فالانزواء.

صدق الأولون من علماء السياسة عندما رفضوا الفصل المطلق بين الداخل والخارج في دراسة علوم السياسة. توقفت طويلاً أمام العناصر التي تتسبب في صنع الإنسان، ولا أقول المواطن، الذي يختار الانعزال أو يرضى بالعزلة المفروضة عليه. رحت أقارنها بالعناصر التي تتسبب في صنع الدولة التي تختار الانعزال أو تلك التي ترضى بعزلة تفرض عليها. رحت أراجع وأتذكر وأقارن.

سويسرا مثلاً اختارت الانعزال وأسمته حياداً. في قارة تشهد من عشرات العقود حروباً لا تتوقف، أهلكت في طريقها إمبراطوريات ودمرت مئات المدن وأطلقت العنان لهجرات وهجرات مضادة.

أحدهم سألني إن كنت أعتبر الولايات المتحدة في وضعها الراهن، ومع استمرار حرب إسرائيل وأمريكا ضد الشعب الفلسطيني، وبخاصة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، بخاصة ضد شعب غزة، أعتبرها دولة في حال انعزال.

يردد خبراء السياسة الدولية ما يعتقدون أنه صار من قواعد الفهم للسلوك السياسي للدول، كما في السلوك السياسي للأفراد داخل كل دولة، أن أموراً ثلاثة تتسبب واحدة منها على الأقل في إثارة الرغبة في الانعزال عن الجماعة، وهي الحالة التي يصاحبها الشعور بالوحدة وتصرفات تعكس حالة مزيج من المشاعر والطموحات المحبطة. أما هذه القواعد فمنها (1) خروج القوة الأعظم المهيمنة على قواعد النظام الدولي، وأكثرها من صنع هذه الدولة القائد نفسها، وتمرد دول متزايدة العدد. (2) المبالغة في ممارسة الهيمنة تحت عنوان قيادة النظام الدولي. (3) الشكوك المتزايدة لدى عدد كبير من الدول في نجاعة النظام الدولي القائم، وبخاصة قدرته على تحقيق الاستقرار والأمن الدوليين.

كثيرة هي النماذج في التاريخ المعاصر التي تستحق العودة لدراسة نهج سياساتها الخارجية، والداخلية، خلال انعزالها أو عزلها. كوبا كانت ولا تزال نموذجاً لحال دولة صغيرة فرض عليها العزل. الصين الشعبية مارست هذا الدور لعقود قبل أن تقرر الولايات المتحدة حاجتها إلى وجودها قطباً مشاركاً. كوريا الشمالية نموذج فريد لرد فعل دولة صغيرة تعرضت للعزل من جانب القوة الأعظم فتحولت إلى قوة حشد شامل غير مسبوق وتهديد كامن لأمن النظام الدولي. إسرائيل نموذج آخر فريد

أمامنا، وبالتحديد في مقدم النظام الدولي الذي نعيش في جنباته، دولة عظمي ارتكبت من السياسات والممارسات ما جلب عليها بوادر عزلة داخل نظام دولي هي صانعته وقائده. جلب أيضاً بالتبعية داخل قطاع مهم من نخبتها رغبة متنامية في الانعزال وسلوكيات أفراد وأجيال تستحق منا المتابعة والانتباه.

الأمر جد خطِر وكذلك الوضع والظرف، فالدولة القائد، بقوتها الجبارة وأثناء لحظات ارتباك وسيولة ومعايير مزدوجة وشباب منفعل بالغضب أو عدم الرضا، تشارك في دعم حرب إبادة كبيرة تقرر شنها ضد شعب فلسطيني أعزل، تشارك أيضاً في دعم حروب استعمار صغيرة في دول عربية وإفريقية متزايدة العدد. الدولة صانعة القواعد الأخلاقية للنظام الدولي صارت بشكل من الأشكال متهمة بخرق هذه القواعد. الدولة المكلفة بحفظ الأمن والسلم الدوليين هي الآن متهمة بأنها تنشر الفوضى وتثير الشغب. الدولة الأمل صارت، في اعتقاد شعوب العالم، مصدراً للألم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycuzp8at

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"