استهداف عبد الناصر مجدداً

00:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

إنه الثأر مجدداً، الاستهداف نفسه. الثأر من مشروعه قبل شخصه.

تعاقبت العقود على رحيله دون أن ينقضي إلهامه، الذي تجدد بالحنين إلى مواقفه وسياساته في حرب الإبادة على غزة.

مراجعة أسباب الهزيمة العسكرية في حرب 5 يونيو/حزيران 1967 من ضرورات استيعاب دروس التاريخ حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها مستقبلاً. هذه مسألة تختلف جذرياً عن تكريس ثقافة الهزيمة في الوجدان العام.

الادعاء بأن إسرائيل حاربت من دون سند أمريكي، أو تخطيط مسبق مع إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، وأن إسرائيل كانت وحدها، محض كذب متعمد ومدفوع.

كان عام (1966) منذراً بأن هناك شيئاً قد يحدث استهدافاً لإجهاض التجربة الناصرية، فقد توالت الانقلابات ضد رموز حركة التحرر الوطني واحداً إثر الآخر.

في تلك الأجواء جاء رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو إلى القاهرة بما توافر لديه من معلومات وتسريبات ليحذر جمال عبدالناصر: «إنهم خارجون لاصطيادك يا سيدي الرئيس».

في ذلك العام المنذر حذرت أعمال مسرحية وروائية من أن هناك شيئاً قد يداهم عبدالناصر وينال من تجربته.

هو نفسه أكد ذلك المعنى في خطاب ألقاه يوم 2 مايو/أيار 1967: «إن الاستعمار لن يغفر لنا ما فعلناه».

مع ذلك لم يكن هناك تنبها كافياً للخلل الفادح في بنية قيادة القوات المسلحة. كان معزولاً تماماً عما يحدث فيها. هذه حقيقة حجبت عنه المعلومات الكاملة في وقته وحينه.

إنها مسؤوليته السياسية التي يتحملها وحده، فقد كان ينبغي له بقدر الثقة الهائلة فيه أن يحسم قبل أن تقع الواقعة.

إثر الهزيمة حاكم نظامه، كما لم يحدث من قبل أو بعد، المحاضر منشورة لمن يريد أن يقرأ، وأعاد بناء الجيش من تحت الصفر على أسس احترافية وحديثة مكنته من خوض حرب استنزاف لمدة ثلاث سنوات كانت البروفة النهائية لعبور الجسور في أكتوبر/تشرين الأول 1973.

«لن يتركوني أبداً حتى ينالوا مني قتيلاً، أو سجيناً، أو مدفوناً في مقبرة مجهولة».. أطلق عبدالناصر هذه الكلمات، بكل حمولاتها السياسية والإنسانية، أمام نجله الأكبر صديقي الراحل خالد في ديسمبر/ كانون الأول 1969 في ذات اليوم الذي استمع فيه إلى تسجيلات التقطتها ميكروفونات حديثة في مدخل السفارة الأمريكية وصالونها وغرفة الطعام والبهو الأعلى بمبناها، في عملية أطلق عليها «الدكتور عصفور»، التي كشف عنها الأستاذ محمد حسنين هيكل.

كان الكلام المسجل، الذي استمع إليه وكتب نصه على ورق أمامه، بتاريخ اليوم السادس من ذلك الشهر، بالغ الخطورة إلى حد دعا رئيس المخابرات المصرية أمين هويدي أن يحمله بنفسه دون إبطاء إلى الرئيس.

وفق ما هو مسجل فإن قيادات الدولة العبرية توصلت إلى استنتاج أن «بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسم، أو بالمرض خشية أن يُفضي أي إنجاز عسكري للقوات المصرية إلى مد جديد لحركة التحرر الوطني في العالم العربي لا تقدر على صده».

هنا بالضبط مغزى استهدافه حياً وميتاً، ألا يلهم مشروعه مداً تحررياً جديداً، وألا تقود مصر مجدداً عالمها العربي سعياً لتوحده في دولة منيعة.

لم يكن ما قاله السيناتور الأمريكي جون ماكين في ميدان التحرير أثناء ثورة يناير/كانون الثاني2011: «لا نريد عبدالناصر جديداً» تجديفاً في الفراغ السياسي بقدر ما كان تلخيصاً لنوع النظرة إلى مصر التي لا يريدونها.

لم تكن مصادفة أخرى أن الذين يهاجمون عبدالناصر بالتفلت الأخلاقي واللفظي، هم أنفسهم الذين يتبنون السردية الإسرائيلية وينحازون إليها في حرب الإبادة على غزة.

إنهم يكرهون عبدالناصر والمقاومة الفلسطينية معاً.

هم أنفسهم الذين يتعمدون إهانة صلاح الدين الأيوبي بدوره في تحرير القدس، ونزع القداسة عن المسجد الأقصى تسويغاً موارباً لبناء الهيكل المزعوم محله.

هذا وحده كافٍ لإزاحة كل الأقنعة عن كل الوجوه..القضية ليست عبدالناصر، بل ما يرمز إليه.

مع بدء الانقلاب على توجهات ثورة يوليو نشأت ظاهرة «ندابات يونيو»- حسب التعبير الشهير، الذي أطلقه الكاتب الصحفي الأستاذ محمد عودة في سبعينيات القرن الماضي لتكريس الهزيمة قدراً لا فكاك منه في الوجدان العام.

في أكتوبر/ تشرين الأول 1973 عبرت مصر قناة السويس، وكان يفترض أن تعبر أي مشاعر لحقت الهزيمة، لكنها تكرست. النتائج ناقضت التضحيات والسياسة خذلت السلاح.

كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر في أكتوبر هو تكريس الهزيمة في يونيو.

جرى تسطيح قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وقضية الأمن القومي المصري، الذي دافعت عنه قواتنا قبل أي شيء آخر..كانت تلك هي الهزيمة الحقيقية.

وقد لامس الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم أعمق المعاني بقصيدة دوّت منتصف ثمانينات القرن الماضي عن عبدالناصر، الذي هجاه في حياته، حين أنشد على غير توقع وانتظار:

«عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت

وعاش ومات وسطنا

على طبعنا ثابت

وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت

ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت».

هكذا لخص رمزية الصراع على المنطقة، رافضاً أن يتمكن الأعداء من عبدالناصر«مشروعاً وإرثاً وطنياً» «مهما الأمور جابت».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yckdk9yn

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"