«جهينة» وخبرها اليقين

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

شائع القول المأثور، أو المثل: «عند جهينة الخبر اليقين»، ولهذا القول، الذي هو شطر في بيتٍ من الشعر، حكاية وردت في مقامات الحريري، وعند من لم يعرفوا بأمر هذه الحكاية، يتركز الفضول في: «من تكون جهينة»؟ وكأن أنظارهم تنصرف إلى امرأة تحمل هذا الاسم، لكنّ الأمر ليس كذلك.

أصل هذا القول، كما ورد في المقامات، «إنّ رجلًا اسمه حصينُ بنُ عمرٍو خرج يطلب فُرْصةً فاجتمع برجلٍ من قبيلة جُهينة يقال له: الأخنسُ بن كعبٍ، فتعاقدا ألَّا يلقيا أحدًا إلَّا سلباه، وكلاهما فاتكٌ يحذر صاحِبَه، فطلبا يوماً اللخميَّ فوجداه نازلًا في ظلِّ شجرةٍ، فعرض عليهما الطعامَ فنزلا وأكلا وشربا، ثمَّ إنَّ الأخنسَ ذهب لبعض شأنه، فلمَّا رجع وجد سيفَ صاحبه مسلولاً، واللخميَّ يتشحَّط في دمه فسلَّ سيفَه، وقال: (ويحَك! قتلتَ رجلاً تحرَّمْنا بطعامه وشرابه!)، فقال: (اقعدْ يا أخا جُهينة، فلهذا وشبهِه خرجْنا)، ثمَّ إنَّ الجهنيَّ شغل صاحِبَه بشيءٍ ثمَّ وثب عليه فقتله وأخذ متاعَه ومتاعَ اللخميِّ، وانصرف إلى قومه راجعاً بماله، وكانتْ لحصينٍ أختٌ تُسمَّى صخرةَ، فكانتْ تبكيه في المواسمِ وتسأل عنه فلا تجد مَن يخبرها بخبره، فقال الأخنس حين أبصرها شعراً وردت في خاتمته الأبيات التالية: «كَصَخْرَةَ إِذْ تُسَائِلُ فِي مراحٍ/ وَفِي جَرْمٍ وَعِلْمُهُما ظُنُونُ/ تُسَائِلُ عَنْ حُصَيْنٍ كُلَّ رَكْبٍ/ وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقِينُ/ فَمَنْ يَكُ سَائِلًا عَنْهُ فَعِنْدِي/ لِسَائِلِهِ الحَدِيثُ المُسْتَبِينُ».

وفي الشرح نقرأ أنّ مراح وجرم هما اسما قبيلتين، تسأل أخت القتيل عندهما الخبر عن مقتل أخيها الذي لا علم لهما بأمر من قتله، وكيف وأين، فيما الخبر اليقين، هو عند جهينة، القبيلة التي ينتسب إليها القاتل، ومن يومها غدا هذا قولاً غايته أن الحقيقة، أو الخبر اليقين معروف لدى فرد بعينه أو جهة بعينها، وما أكثر ما يجري استبدال اسم جهينة بأي اسم آخر إذا أراد أحدهم إرشاد آخر إلى معلومة أو معلومات يحتاجها، بأن يقول له: إنّ عند فلان الخبر اليقين، فاسأله، تجد منالك.

وعلى هذا تترتب أسئلة، نختار منها على الأقل سؤالين، الأول هو: هل أنّ عند كل من له مقام جهينة العالمة بالشيء، الرغبة أو الجرأة أو المصلحة في الإفصاح عن الخبر اليقين الذي قدّر له أن يعرفه دون سواه، فما أكثر من يبقون الخبر اليقين سراً مكتوماً في صدورهم حتى يتوفاهم الله، وبذا تغيب عن التاريخ المكتوب أو المروي الكثير من الأسرار المهمة، وربما الفاصلة، أما السؤال الثاني فهو ما مقدار الثقة أو الطمأنينة في صحّة ما سيقوله من وُضع في مقام جهينة العالمة بالخبر اليقين؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr3cvx5x

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"