المسلة الشاهدة

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

«هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ مقبرة الفراعنة/ النقوش على حجارة معبدٍ هزمتكَ وانتصرتْ/ وأفلت من كمائنك الخلود». هكذا قال محمود درويش في «الجدارية»، كأنه يقصد أن البشر يموتون لكن آثارهم تبقى عصيّة على الموت. ما من حضارة احتفت بطقوس الموت كما احتفت الحضارة الفرعونية، لكن عيون أبناء تلك الحضارة لم تكن على الموت بحد ذاته، إنما بنقيضه: الخلود، وما أرادوه تحقق لهم. ها هي أهراماتهم ومعابدهم ومسلاتهم شواهد خالدة على حضارة عبرت الزمن.

المسلات بالذات هي أحد عناوين الحضارة الفرعونية وعنصر مهم في عمارتها، حيث كانت توضع عند مداخل المعابد، من الجهتين، اليمنى واليسرى، وهي منحوتة من كتلة حجرية واحدة جاء معظمها من محاجر الجرانيت في أسوان. ورغم أن بعض المصادر تشير إلى أن حضارات أخرى، بينها الآشورية، عرفت المسلات أيضاً، لكن ما من بلد يضاهي مصر في عدد مسلاتها التي ارتبطت بالأساطير المصرية القديمة، حيث كانت المسلة تعتبر حجراً مقدساً، وترمز إلى إله الشمس رع، وخلال عصر أخناتون قيل إنها كانت شعاعاً متحجراً من أتون، قرص الشمس.

وجدت الكثير من المسلات المصرية طريقها إلى بلدان مختلفة من العالم، خاصة في أوروبا، ويقال إن «هجرة» هذه المسلات إلى الخارج، ليست أمراً حديث العهد، فقد أعجب الرومان بتلك المسلات، فجلبوا العديد منها إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية.

كعهدها كل عام، احتفلت فرنسا في 14 يوليو/ تموز بعيدها الوطني، الذي يقام سنوياً في ساحة الكونكورد في العاصمة باريس أمام مسلة مصرية قديمة آتية من معبد الأقصر في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1830، حين أهداها حاكم مصر، يومها، محمد علي باشا، إلى ملك فرنسا، لويس فيليب الأول، تعبيراً عن دفء العلاقات بين البلدين، وتكريماً لجهود العالم الفرنسي جان - فرانسوان شامبليون في معرفة أسرار الكتابة المصرية القديمة. وقدّر لهذه المسلة العائدة إلى عصر الملك رمسيس الثاني، أشهر الملوك الفراعنة، أن تكون شاهدة على كثير من الأنشطة السياسية الفرنسية منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم.

وحسب مقال لوائل جمال حول هذه المسلة، فإن أحد أبرز رواد النهضة الفكرية المصرية في القرن التاسع عشر، رفاعة الطهطاوي، كان أول من اعترض على نقل المسلة بعد عودته من بعثته العلمية في باريس، ورأى الخطوة بمثابة إهدار للثروة القومية، وسجل اعتراضه في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» حيث كتب: «إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم على منوال بلاد أوروبا فهي أولى وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة، وسلبه عنها شيئاً بعد شيء أشبه بالغصب».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mwvykhz7

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"