إذا قالت حذام فصدقوها

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

ليست جهينة وحدها من لديها الخبر اليقين، كما شرحنا أمس. يطيب لنا اليوم، أيضاً، الحديث عن حكاية قد تكون مشابهة في الدلالة لحكاية جهينة، وإن اختلفت في التفاصيل، والخبر اليقين اليوم سيكون عند حذام وهو ليس اسم قبيلة كاسم جهينة، وإنما اسم امرأة، مصدره حكاية، تكاد تشبه حكاية زرقاء اليمامة التي حذّرت قومها من جيوش زاحفة على أراضيهم، بسبب قوّة بصرها، لكن القوم سخروا منها ولم يصدقوا الحكاية حتى بلغهم الغزاة، لكن الفارق هنا هو أن أهل حذام كانوا يصدقون ما تقول ويأخذونه على محمل الجد.

يقال إنّ حذام بنت الريّان، وهي زوجة رجل يدعى لجيم بن صعب، كانت امرأة شديدة الذكاء، واسعة الحيلة، تصيب الرأي إن قالت، وتظنّ الأمر فيأتي كما توقعت، وكان زوجها لجيم يثق بحدسها وقوة إدراكها، ويحكى أنه وقعت فتنة بين رجل يدعى عاطس بن الحلاج بن الحميري وقوم حذام، فصار إليهم في جموع كثيرة العدد، واقتتلوا، ففرّ قومها هاربين ورجع الحميري إلى معسكره، فسار قوم حذام ليلتهم ويومهم إلى الغد، واستقروا في الليلة الثانية.

فلما أصبح الحميري ورأى آثارهم، اتبعهم، فانتبه القطا من وقع دوابهم، والقطا، كما هو معروف، نوع من الطيور مرّت على قوم حذامِ قِطَعاً قِطعاً، والفطنون من الناس يعرفون أنه يمكن استنباط الأخبار من تصرفات الحيوان، فخرجت حذام إلى قومها فقالت: «ألا يا قَومَنا ارتَحِلُوا وسِيرُوا، فَلو تُرِكَ القَطَا لَيلاً لَنَامَا»، فقال زوجها الشاعر لجيم بن صعب: «إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا، َفإِنَّ القَولَ مَا قَالَتْ حَذَامِ»، فارتحلوا حتى اعتصموا بالجبل، ويئس منهم أصحاب عاطس فرجعوا من حيث جاؤوا، وهكذا نجا قومها من شرعاطس وجماعته، بسبب ذكائها وفطنتها. وممن تناص مع هذا القول كان أبو العلاء المعري الذي قال: «إذا ما جاءَني رَجُلٌ حُذامٌ/ فَإِنَّ القَولَ ما قالَت حَذامِ».

بعض شرّاح الحكاية وما أكثرهم وتعدد أهوائهم، رأوا أنّ العبرة منها هو الاستماع إلى أهل الفطنة والحكمة، ومن يرون أبعد مما يراه بقية القوم، خاصة إذا حذّروا من أهوال أو مصاعب قادمة، ولسنا هنا نعني متوقعي الأرصاد الجوية، الذين وإن صحّت توقعاتهم حيناً، فما أكثر ما تخطئ، رغم أن أدوات العلم ووسائل قياسه باتت لهم معيناً يرشدهم إلى ما يشهده الطقس من تقلبات، وإنما نعني أولئك الذين لا يرجمون بالغيب، وإنما يجيدون تشخيص الأوضاع القائمة، وعدم الاكتفاء بتتبع مقدّماتها وخلفياتها، وإنما رسم سيناريوهات محتملة لما قد ينجم عنها في المستقبل، بما فيها أكثر السيناريوهات سوءاً، وهذا ما تفعله الأمم النابهة، وتهرب منه الأمم الخاملة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/59tcx9yz

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"