عادي

الأدب في حضرة الخشبة

23:28 مساء
قراءة 6 دقائق
الأدب في حضرة الخشبة

القاهرة: مدحت صفوت

الحديثُ عن أزمات المسرح لايكاد ينقطع، بمناسبة أو دونها، الكلُّ يشكو حالَ «أبي الفنون»، ويتباكون تراجع المستوى وانخفاض الشعبية والجماهيرية، ولربما كنوع من الاستسهال يلقون بالأسباب على «غياب النصّ المسرحي»، ومن ثمّ يتحمل المؤلف تبعات الأزمة العالمية التي يعيشها المسرح في كافة أرجاء العالم، ووحده دون غيره، على الرغم من تعدد عوامل الأزمة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وقانونياً أيضاً.

بتوسيع الرؤية ودائرتها، نجد أن أزمات المسرح تاريخية، إذ نجا أبو الفنون عبر العصور وآلاف السنين، فسبق أن ازدهر المسرح خلال فترة الكساد الكبير والحروب العالمية، ووجدت الدراما وفنّ التشخيص معنىً أكبر في الصراعات التي واجهتها البشرية وظهرت بأشكال جديدة ومحتوى جديد. ومع انتشار جائحة كوفيد 19، مطلع العام 2020 وما تلاها من أزمات عالمية، حرب روسية أوكرانية بجانب أزمة غذاء عالمية، يعاود السؤال طرح نفسه من جديد وبصيغة مغايرة: فليس السؤال الرئيسي هو كيف سينجو المسرح من الأزمة؟ لأنه فعلَ وسيفعل بغض النظر عن الظروف، لكن السؤال هو: ماذا ستسفر هذه الأزمة في النهاية؟

السؤال الأخير حلّ نقطة مركزية على كتاب «الفضاء الفارغ» لبيتر بروك 2008، والذي يوسّع من مفهوم المسرح في الفصل الأول، بقوله «يمكنني أن آخذ أي مساحة فارغة وأسميها مسرحاً مجرداً. يمشي رجل عبر هذه المساحة الفارغة بينما يراقبه شخصٌ آخر، وهذا هو كل ما هو مطلوب للانخراط في عمل مسرحي». في هذا الخط، يحرر بروك المسرح من متطلبات المساحة والتوقعات العديدة التي تنشأ عندما ينظر المرء إلى العروض الحية، «الحرية تكمن في المكان والأزياء والمسرح، والحرية هي الإبداع بمكونين أساسيين فقط: الممثل والجمهور». ومن خلال القيام بذلك، قدم بروك الشرط الضروري للمسرح بحيث يمكنه الإبداع في جميع الظروف.

ومع القيود التي فرضت في السنوات الماضية بسبب الوباء ومتطلبات البقاء في الداخل، واجه المسرحيون والمجتمعُ الفنيُّ محنةً كبيرة، وتجلتْ أسئلةٌ من نوع آخر، بجانب أسئلة بروك، ففي المقالة التي تحمل عنوان «فن التجميع المنسي» والتي كتبها نيكولاس بيرجر، فككت بعناية لماذا يجب على الفنانين خلال فترة الوباء الامتناع عن إنشاء الكثير من المحتوى، «لأنه في النهاية سيكون هذا عملاً يمكن التخلص منه عبر الإنترنت».

ومن المقبول أن نقول إن اللحظات الراهنة وقت غير مسبوق في تاريخ البشرية. لكن مثل هذه الأوقات حدثت خلال الطاعون الدبلي والأنفلونزا الإسبانية وغيرها من الأوبئة في تاريخ البشرية، والصراعات الإنسانية الكبرى، والتي أدت إلى وفاة الملايين في الماضي إلى جانب نمو الفهم حول كيفية معالجتها. لكن هناك شيء واحد مؤكد، وهو أنهم أضافوا بعدًا للفن في ذلك الوقت.

الآن: وبعد أن هدأت أزمة الجائحة، نعتقد أننا بحاجة إلى إعادة صياغة مفاهيمنا للمسرح، والإجابة بوضوح عن أسئلة عدة، من قبيل: ما هو المسرح؟، ومن المسرحي؟، وما النص المسرحي؟، وما الذي نريده من المسرح؟، وما علاقة المسرح بالجمهور، وما علاقة المسرح بالخيال. خطوات مهمة للغاية في سبيل التخلّص من الأزمة الراهنة، لا أزمة التأليف المسرحي فحسب، وإنما الأزمة الثقافية في سياقها العام.

  • قائمة طويلة

على الرغم من أن رؤية بروك تبدو أنها تقتصر على الممثل، فإنها تحوي في مضمونها نصاً، فالممثل لن يقدم اللا شيء أو اللا حكاية، إنّما من المؤكد أنه سيستند إلى نصّ حتى وإن كان مرتجلًا، فالتأليف يراه المسرحيون عمومًا أساس المسرح وبنيانه، والافتقار إلى كتّاب مسرح جيدين يعني افتقار العملية المسرحية إلى العقل الدائم للحركة المسرحية، ومن ثمّ فإنّنا نقرُّ بوجود أزمة نصوص مسرحية، لكننا نتعامل معها بنظرة ليست علمية أو واقعية، فإذا ظل الأدب المسرحي بعيدًا عن الخشبة، فسنواصل البقاء في المنطقة الخطأ.

عربيًا، لدينا كتّاب مسرح في العالم العربي جيّدون، والكتابة المسرحية قائمة ومتواصلة، بإمكاننا مثلاً رصد أعداد المتقدّمين لمسابقات التأليف، كذلك مسابقات العروض، فمن أين تأتي الأخيرة دون وجود نصوص؟ ولدينا في أغلب البلدان، إن لم يكن جميعها، مؤلفون متحققون في الكتابة المسرحية، ويعافرون من أجل تقديم نصوصهم أو نشرها، بخاصة مع عدم وجود دور نشر عربية تهتم بنشر النصوص المسرحية، عدا عدد من الجهات الحكومية أو المؤسسات المدعومة من الحكومات، مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة في مصر، واللتان تخصصان سلسلتي نشر للكتابة المسرحية، فيما تدعم وزارة الثقافة السعودية عددًا من دور النشر للعناية بالنصوص المسرحية وإعادة الاعتبار لكتابة الدراما.

وفي ظل الأزمات التي تعانيها الفنون، فإننا يمكن أن نرصد عشرات الأسماء المسرحية اللامعة في البلاد العربية، ومن أجيال الثمانينيات والتسعينيات، وأجيال الألفية الجديدة، ففي مصر أسماء من قبيل أحمد عبد الرازق أبو العلا، وسامح مهران ونادر صلاح الدين، ونورا أمين، ومروة فاروق، ويسرا الشرقاوي. ومن تونس حياة الرايس، ومن المغرب بديعة الراضي. وفي المملكة العربية السعودية نطالع أسماء صالح الزمانان، مؤلف أول أوبرا سعودية، بجانب إبراهيم الحارثي وعباس الحايك وعبد العزيز عسيري وفهد ردة الحارثي، وغيرهم.

  • بين اتجاهين

وعلى الرغم من الواقع الذي أشرنا إليه، فإنّه من المنطقي أن نقرّ بالأزمة التي يعيشها المسرح، في جلّ جوانبه، الأمر الذي يدفع بجهات الإنتاج إلى إعادة إنتاج النصوص القديمة، مثلما حدث مع مسرحية «سيدتي الجميلة» الذي أعادها الشاعر أيمن بهجت قمر من بطولة أحمد السقا وريم مصطفى، كما سبق أن أعاد النجم يحيى الفخراني تقديم مسرحية بيرم التونسي «ياما في الجراب يا حاوي». ومن جهة أخرى توجهت جهات إنتاج إلى تقديم النصوص الغربية أو المقتبسة عن النصوص الغربية، حديثها أو كلاسيكياتها، كما جرى في إعادة تقديم «الملك لير» وما حققته من رواج جماهيري سواء في المسرح القومي المصري أو على خشبات القطاع الخاص.

في ظل ما سبق، نعتقد أن الأمر يحتاج إلى جهد أكبر من جهات الإنتاج، حكومية أو خاصة، في البحث عن النصوص المسرحية، والتنقيب عن جيدها أو ما يلائم المزاج العام للجمهور، فالشكوى من قلة «النصوص» لدى البعض أحاديث مفتعلة؛ لأنها ليست أزمة نص بقدر ما هي أزمة ثقافية انعكست بنفسها على أزمة النص وأزمة المسرح معًا، ومع معقولية هذا الطرح ومنطقيته، فربما نراه توسيعاً للأزمة كنوع من الهروب. حال المسرح بخير لكن الإشكالية في السياق العام، وهو طرح يغفل أن معضلات المجال العام ما هي إلا نتاج لمعضلات أصغر أو أقل، فالوضع الثقافي المتراجع، مثلما هو سبب في أزمات المسرح، هو تمظهر لوضع الأخير إلى جانب أوضاع الرواية والشعر والنقد والكتابة الأدبية والفكرية في العموم.

  • مصير

بالعودة إلى طبيعة النصّ المسرحي وجوهره، فإننا نجده إزاء مصير غريب، إذ يتنازع عليه مجالان من مجالات الفن، ويُنسب إليه مجموعة متنوعة من الوظائف والإمكانيات وطرق الوجود وفقاً لنوع الحجج، ما يُعرض النص الدرامي لازدواجية مشروطة بطبيعة بعض المراحل التاريخية للمسرح، ونصبح أمام رأيين، الأول يرى في النص المسرحي نوعاً أدبياً، والثاني يراه خارج دائرة الأدبية، كفن مستقل، أشبه بكتابة السيناريو السينمائي، وهو النزاع الدائم بين نقاد الأدب ونقاد المسرح. وفي كل من النقد الأدبي والمسرحي، هناك ميل ساحق لمتابعة وحل بعض المشاكل الملموسة والفردية في مجال معين، مع إهمال مشاكل الآخر وإظهار القليل من الاهتمام بالمشكلات النظرية للدراما. وبالطبع، حتى علم المسرح، وقبل كل شيء البحث التاريخي للمسرح، لا يميل كثيرًا إلى تحليل النص الدرامي، مع التركيز في الغالب على وصف المكونات المستقرة نسبيًا للتواصل البصري. ومن الناحية النظرية، فإن حقيقة أن المسرح والنقد الأدبي يجدان أحيانًا نقطة اهتمام مشتركة عند تفسير ما يسمى ب «فكرة العمل الفني» أو المستوى الموضوعي «المحتوى»، وهي مسألة لا تحل المشكلة على أي حال.

النزاع السابق، يحاول البعض فضّه باللجوء إلى «تداخل الأجناس الأدبية» المقولة الرائجة، التي نستطيع أن نعدّ عشرات، إن لم يكن أكثر، من الدراسات والطروحات النقدية التي تتبنى المقولة كلافتةٍ عنوانيةٍ أو كمدخل لقراءة النصوص، أيّ أنّنا نجد دراسات تتناول تداخل الأجناس الأدبية في الشعر، والسرد، والمسرح، والسينما، بل تتعدى ذلك إلى حضور الأجناس الأدبية في الفنّ التشكيلي والسينما.

تفترض بالطبع هذه الدراسات وجود استقلالية جنسية ونوعية بين الأشكال الأدبية المختلفة، ومن ثم تستدعي هذه الاستقلالية دراسة حضور تقنيات الأشكال الأدبية المتنوعة في الخطاب قيد الدراسة، وهو افتراض يستحق التأمل، من جهة التيقن من صحته، إذ أسقطت استراتيجيات ما بعد الحداثة الحدود الفاصلة بين الخطابات كافة. كما ألغت التمايز التقليدي والاعتيادي بين جنس الكتابة الأدبية وأجناس الكتابات الأخرى.

  • حلول ممكنة

بعيدًا من الأزمة حول جوهر النصّ المسرحي، والإشكاليات النظرية التي قد لا تؤثر في الأزمة سلبًا أو إيجابًا، ومع الإقرار على نحو ما بوجود أزمة نصوصية في جانبها، وإشكالية مسرحية ثقافية في عمومها، فإن البحث عن حلول عملية وواقعية وممكنة هو المسألة الواجب تنفيذها، ولعل الاهتمام بالمعاهد العليا للفنون المسرحية أول الخطوات التي يجب البدء بها، كونها أولى المؤسسات بإنتاج المسرحيين وصناعتهم، بجانب عقد ورش الكتابة المسرحية، وتشجيع الكفاءات، وإقامة المسابقات التي تُعنى بالتأليف المسرحي، وتحفيز مجال كتابة النصوص المسرحية، وهي متوفرة في السنوات الأخيرة، وفي دول عربية عدّة، وبعضها لا يتوقف دورها على منح الفائزين الجوائز، بل تتخطى ذلك من خلال دعم النصوص الفائزة ليتم إنتاجها وإخراجها بشكل إبداعي وعرضها محليًا وعالميًا عبر برامج استثنائية وحصرية، كما هو الأمر في مسابقات هيئة المسرح والفنون الأدائية السعودية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3nersbk3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"