غزة.. عقدتا الأمن والسياسة

00:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ناجي صادق شرّاب

لعل من أبرز التداعيات والنتائج التي تفرضها الحرب على غزة هما إشكاليتان لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، الإشكالية الأولى هي العقدة الأمنية. والثانية هي الإشكالية السياسية أو من يحكم غزة بعد الحرب. وهناك ترابط وتناقض بين الإشكاليتين، أي ربط إشكالية الحكم بإشكالية الأمن.

والمقصود بالأمن هنا إسرائيل. ابتداءً لا بد من الإشارة إلى أن غزة تقع في قلب الدائرة الأمنية الأولى لإسرائيل كما الضفة الغربية. وهذا بحكم الواقع الجغرافي، ومن هذا المنظور أي التحول في القوة فإن إسرائيل تعتبره تهديداً مباشراً لوجودها قد يفوق التهديدات الخارجية.

لقد واجهت حماس إشكالية مزدوجة من ناحية السيطرة الأمنية على القطاع مع تنامي دور الجماعات العسكرية الأخرى مثل حركة الجهاد وغيرها، كما أن حرص حماس على الحكم والسلطة تطلب دعوة لرفع الحصار والبحث عن شكل منفرد للعلاقة مع إسرائيل المتحكمة في المعابر وتشغيل عمال غزة. ومع ذلك دارت حروب لم تتجاوز المرسوم لها، وبقيت في إطار استراتيجية «جز العشب» بالنسبة لإسرائيل في محاولة منها لتحقيق هدف الانفصال عن الضفة وإسقاط حل الدولة الفلسطينية.

ولذلك شهدت العلاقة منذ 2008 ست حروب وآخرها الحرب الحالية. لكن هذه الحرب شكلت تحولاً استراتيجياً في مفهوم الأمن الإسرائيلي. فتطور قوة حماس وامتلاكها لقدرات صاروخية شكل تهديداً فعلياً لأمن إسرائيل ومن ثم ذهبت بهذه الحرب لمقاربة استئصال العشب من جذوره بالإعلان عن سعيها تفكيك قدرات حماس العسكرية وإضعافها. هذه الإشكالية الأمنية قادت للإشكالية السياسية، من يحكم غزة بعد الحرب؟ وهنا برزت العديد من السيناريوهات والمقاربات والتي كلها تبدو بعيدة عن الواقع. ابتداءً لا بد هنا من التنويه إلى بعض الملاحظات والحقائق.

إن بيئة الحكم التي تعني المدخلات والمخرجات، فإسرائيل تسعى لأن يكون لها دور في شكل الحكم بالقطاع بعد انتهاء الحرب، فهي تتحكم بكل المعابر والمنافذ، كما أن إسرائيل تتحكم في القدرات الاقتصادية لغزة سواء من حيث دخول وخروج السلع الاقتصادية وكونها تشكل سوقاً واسعة لتشغيل العمال الفلسطينيين في داخلها، حيث وصل العدد لأكثر من عشرين ألف عامل. ولا يمكن لإسرائيل أن تتخلى عن غزة لسبب أمني، فهي تخضع للحسابات الأمنية الداخلية. فأي سلاح فيها حتى لو كان تقليدياً فإنه يشكل تهديداً لها، فما بالنا بالقدرات الصاروخية، فهذا من وجهة نظرها تعتبره «خطاً أحمر» يعطيها المبرر لشن حرب شاملة وتغيير البنية السياسية القائمة فيها، رغم أنها لا تمانع في وجود حالة مستقلة هشة تابعة لها يمكن التحكم فيها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وهي حاولت ذلك من قبل عندما تبنت سياسة متدرجة مع حماس من خلال الحروب المتعددة المتحكم فيها التي كانت تنتهي باتفاق هدنة، وعندما فشلت في تحقيق هذا الهدف لجأت إلى خيار الحرب الشاملة كما نراها الآن والتي تختلف عن كل الحروب السابقة.

ثم، إن إسرائيل لن تستطيع إسقاط دور حماس، فوجودها يتجاوز دورها، فحماس يتجاوز وجودها كحركة مقاومة، فهي فكرة وتمثل عنصراً ومكوناً من مكونات الشعب الفلسطيني، وبالتالي سيبقى دورها كأحد المحددات لمستقبل غزة السياسي وخصوصاً ما يتعلق بقدراتها العسكرية والأمنية، لذلك هي تشكل تحدياً جدياً تجاه أية محاولة لعزلها أو إبعادها عن المشاركة السياسية فيما يتعلق بمستقل غزة أو أي حل يتعلق بالقضية الفلسطينية.

ولا يمكن تصور خيار ومقاربة عودة السلطة الفلسطينية لتولى مسؤولياتها طالما هي تعاني من الضعف والفساد، ولا تملك قدرات أمنية في غزة. وشعبيتها في تراجع كبير، إضافة إلى وجود فجوة واسعة بين حماس والسلطة واتسعت مع الحرب الأخيرة.

إن المقاربة العربية والدولية بإدارة غزة غير مقبولة وغير واقعية ولا تقبل بها الدول المعنية لما لهذه الإدارة من تحديات ومشاكل أمنية. لكن في الوقت نفسه فإن إعادة إعمار غزة يجعل من هذه الدول محدداً رئيسياً في تحديد مستقبل غزة وخصوصاً مصر الدولة الجارة والحاضنة عربياً والتي تتحكم في المعبر الوحيد الذي يربط غزة بالعالم الخارجي ما يجعل لها دور في تحديد مستقبل غزة السياسي.

كما إن المخطط الإسرائيلي لإعادة احتلال القطاع ولو مؤقتاً غير مقبول ويعنى استمرار خيار الحرب والمواجهة، ثم إنه لا يمكن القبول باقتطاع الجزء الشمالي من القطاع وأجزاء من الحدود الشرقية لأن هذا يعني خلق مشكلة التهجير المرفوضة عربياً وفلسطينياً وحتى دولياً.

ويبقى الخيار الأكثر قبولاً هو البحث عن الخيار الفلسطيني من خلال العودة لخيار منظمة التحرير الفلسطينية بتفعيل دورها كفترة انتقالية، وبمشاركة فلسطينية شاملة في إطار التأكيد على التسوية الشاملة والقبول بالدولة الفلسطينية بشكل قوي كأحد أهم المخرجات الإيجابية للحرب.

وأخيراً، تبقى الإشكالية قائمة ما بين العقدة الأمنية والعقدة السياسية التي لا حل لها إلا في إطار الدولة الفلسطينية وإبرام اتفاقات على أساس قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2c9sh4pf

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"