عادي
في شاعرية البصر

الخلق العظيم.. تشكيل خطي روحاني

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
لوحة البورسعيدي
مسعد خضير البورسعيدي

الشارقة: جاكاتي الشيخ
استطاع الفنان والخطاط مسعد خضير البورسعيدي، الملقب بشيخ الخطاطين المصريين، أن يثبت جدارته كواحد من رواد الخط العربي في العصر الحديث، وذلك لما تتميز به لوحاته الخطية من بصمات إبداعية خاصة، جعلت منه أحد أهم المجددين في هذا الفن العربي الإسلامي الجميل.

برع البورسعيدي في ممارسة فن الخط العربي منذ صغره، فأتقن كل أنواع هذا الفن، وظل يُعمِل خياله الواسع في استحداث ما أمكن من لمسات إبداعية، ليتميز عن غيره من الخطاطين بأسلوبه الخاص في إتقان ما يخطه، مستشعراً ما يكتبه، وباعثاً روحانية آسرة في ثنايا أعماله، فهو يؤكد أنه يتعامل مع الحروف بوصفها شخصيات تحدثه ويحدثها، لينتج عن ذلك تنوع كبير في أساليب وأفكار لوحاته الخطية، التي تعبر عن روحه الجريئة وأسلوبه المختلف، والذي يحدث من خلاله تطويراً مستمراً في أنواع الخط العربي الكلاسيكية، ويقدم ابتكارات تمزج هذا الفن ببقية الفنون الجميلة، عبر تجريب طرق جديدة في التنفيذ الخطي.

لمسات جمالية

ومن الأمثلة الرائعة على رقي المستوى الإبداعي لهذا الخطاط الكبير، هذه اللوحة الموجودة بين أيدينا، وقد اختار لها نص الآية الكريمة التي يقول فيها الله جل وعلا في سورة القلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وكتبها أفقياً بخط الثلث الجلي، معتمداً أسلوب الكتابة اللَّيِّن الذي تطغى فيه السهولة واليسر في انتقال القلم أو أداة الكتابة لرسم الحرف، فخطوط الثلث من أكثر الخطوط ملاءمة لهذا الأسلوب، والبورسعيدي يتقن تنفيذ هذا الخط بسلاسة تضفي على أشكال الكلمات والحروف رونقاً خاصاً، تتجلى في جمال التدوير والمدّ والتراكب، وغيرها من اللمسات الجمالية.

وفق الخطاط خضير في اختيار مضمون نص لوحته، فالآية الكريمة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} تصف خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم برفعة وجلال الشأن، وسمو المنزلة، وهو وصف له من الله جل جلاله، يضعه به في تلك المنزلة السامية من النبوة والاصطفاء، وإذا كان رسولنا هو المقصود بعظم الخُلق هنا، فهو أيضاً حث للمؤمنين على الاقتداء به، والتخلق بما أمكن من حَسَن الخلق، فقد عكست السيرة النبوية الكثير من تلك الأخلاق التي ظهرت في تعامله مع مختلف أنواع البشر، سواء الذين يؤمنون به أو الذين لا يؤمنون.

توازن بصري

عمل البورسعيدي على كتابة لوحته بخط الثلث الجلي بشكل أفقي واضح، ليبرز تمكّنه من القيام بما يريده من إبداع دون الحاجة إلى تركيب النص في مكان ضيق ومغلق، فبدأ بكتابة حرف الواو في يمين اللوحة، ثم أتبعه بكلمة «إنك» التي ركبت على كافها عين «لعلى»، والتي أكملها أفقيا وركَب على ألفها المقصورة أيضاً خاء كلمة «خلق»، والتي بدورها استرسل في كتابتها وجعل طرف قافها جزءاً مشتركاً لحرفي العين والظاء من الكلمة الأخيرة «عظيم»، وقد أبدع من خلال كل ذلك في توظيف التداخل والتشابك والتراكب والتقاطع في آن واحد، في بنية خطية أفقية مفتوحة، ويظهر ذلك بشكل أوضح في طريقة خطه للحروف: «ع» و«خ» و«ع»، ليبرز بذلك التأثير المتقن في القيمة الجمالية للحروف، كما مدّ الألفات واللامات وعصا الطاء لتكون جميعاً على نفس المستوى من الارتفاع، مُحدثاً بذلك توازناً بصرياً في الشكل الأفقي للنص، ثم شكل الفراغات بمجموعة من الحركات والشدّات والنقاط والزخارف، ليكمل بذلك تحقيقه لخصائص خط الثلث الجلي، وليوحي عبر تلك الكتابة الأفقية باستقامة صاحب الخلق العظيم الذي نزلت فيه هذه الآية، واستقامة من يقتدون به في خلقه.

لقد وفق البورسعيدي كذلك في اقتصاره على اللونين الأسود والبرتقالي في اللوحة، فهما لونان متناسقان، حيث استخدم البرتقالي لأرضية اللوحة، وهو لون التفاؤل الذي يشع بالدفء والسعادة، فيما استخدم الأسود للكتابة وهو لون الإيجابية والوضوح، ليمثل ترافق هذين اللونين في اللوحة تجلياً للقيمة الدلالية لهذه الآية الكريمة الممجِّدة للنبي الأكرم وحسن خلقه، ليكون مثالاً يُحتذى من طرف كل الراغبين في أن يعيشوا حياة طبيعة مشبعة بالسعادة المتبادلة وبالإيجابية، وهو توظيف دلالي وإبداعي لا يستغرب من فنان قدير بمثل موهبة البورسعيدي ومسيرته الخطية، ما يجعل مُشاهد هذا العمل أمام عمل فني فريد، بلمسات جمالية آسرة، تجعل روحانية المضمون تنفذ إلى القلوب من شكل اللوحة الرائق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3adzxksd

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"