عادي

«المُعجمُ التَّاريخيُّ للعربيَّة».. حكايةٌ عُمرُها 20 قرناً

14:25 مساء
قراءة 4 دقائق
«المُعجمُ التَّاريخيُّ للعربيَّة».. حكايةٌ عُمرُها 20 قرناً
«المُعجمُ التَّاريخيُّ للعربيَّة».. حكايةٌ عُمرُها 20 قرناً
«المُعجمُ التَّاريخيُّ للعربيَّة».. حكايةٌ عُمرُها 20 قرناً
الشارقة: «الخليج»
«المعجمُ التَّاريخيُّ للُّغةِ العربيَّةِ» هو عملٌ موسوعيٌّ عالميٌّ أطلقهُ «مَجْمَعُ الُّلغةِ العربيَّةِ بالشَّارقة» قبلَ بضع سنين، ولا يكتفي المعجم بالتَّطرُّق إلى شرحِ الكلمات والمفردات، وإنّما يُوثّقُ أدقَّ تفاصيل التُّراثِ واللِّسانِ العربيِّ منذُ نشْأَتهِ الأُولى، ويُتوّجُ مسيرةَ أكثرَ من 20 قرنًا من تاريخِ اللُّغةِ العربيَّةِ واستعمالاتِها وتطوُّرِها عبر العصورِ، مُوثِّقًا الشَّواهدَ والمصادرَ عِلميًّا، ومُجسِّدًا حكايةَ عشقٍ لا تنتهيْ للثَّقافةِ العربيَّةِ، تعكِسُ الرُّؤيةَ الرَّشيدةَ لصاحبِ السُّموِّ الشَّيخ الدُّكتور سلطان بن محمَّد القاسميّ، عضوِ المجلسِ الأعلى حاكمِ الشَّارقة، والمكْرُمَاتِ الجليلةَ الّتي يُقدِّمُها لحمايةِ اللّغةِ العربيّةِ والحفاظِ عليها، فما هي هذهِ الحكايةُ وكيفَ بدأتْ؟.
في قديمِ الزَّمانِ، كانتِ العربُ تحفظُ لغاتها ولهجاتِها وتَتناقلُهَا شَفهيّاً من جيلٍ إلى جيلٍ، ومع تَوسُّعِ الفتوحاتِ إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا، شَهِدَتْ لُغةُ العربِ دُخولَ اللَّحْنِ؛ أي الخطأَ في الإعرابِ، والتَّصْحِيفِ؛ أي الخطأَ في الحروفِ، لا سِيَّما تلكَ الّتي يُفَرَّقُ بينها بالنِّقاطِ؛ كالصَّادِ والضَّادِ، والعَيْنِ والغَيْنِ، فظهرتِ الدِّراساتُ اللُّغويِّةُ في القرنِ الأوَّلِ وتطوَّرتْ في القرنِ الثَّاني الهجريِّ، حفاظاً على اللِّسانِ العربيِّ، وتوثيقاً لأصواتهِ ومفرداتهِ، وتسابقَ علماءُ اللُّغةِ العربيَّةِ لتحقيقِ هذا الهدفِ، من خلالِ تكريسِ حياتِهمْ لتأليفِ المعاجمِ اللُّغويّة.
*بداية
بدأتْ القِصَّةُ منتصفَ القرنِ الثَّاني الهجريِّ في البصرةِ، مع «النَّجمِ السَّاطعِ»، الخليل بن أحمد الفراهيديِّ، الّذي جمعَ الحِكْمةَ وسِعَةَ الاطِّلاعِ على علومِ اللُّغةِ والرِّياضيَّاتِ والموسيقى، وعُرِفَ بعشقهِ للُّغةِ العربيَّةِ وألحانِها وطبقاتِ أصواتِهَا ونغماتِهَا، فلم يكتفِ بتأسيسِ «علمِ العَرُوْضِ» فحسبْ، وإنّما اعتمدَ على نظريَّةٍ صوتيَّةٍ لتأليفِ كتاب «العيْن»، أوَّلِ معجمٍ لغويٍّ من نوعهِ في العالم.
اعتمد الفراهيديُّ المخرجَ الصوتيَّ لترتيبِ الحروفِ في منهجٍ جديدِ يتناولُ مفرداتِ اللُّغةِ كافّة، بحسبِ أبعدِ الحروفِ مَخْرَجاً، فبدأ بالحُروفِ الّتي تَخْرُجُ من الحَلْقِ، ثم حُروفِ أقصى اللِّسانِ، ثم حروفُ وسطِ اللِّسانِ، ثم وصلَ إلى الحُروفِ الشفويَّةِ، ثم حُروفِ العِلَّةِ والهمزةِ، وبدأ بحرفِ العيْن، ولهذا سُمِّيَ مُعجمهُ «العيْن».
ومن شِدَّةِ تعلُّقِهِ باللُّغةِ العربيَّةِ، كان الفراهيديُّ يُعمِلُ فِكْرَهُ فيها صباحَ مساء، حتَّى اصطدمَ بعمودٍ في مسجدٍ وهو غافلٌ عنهُ، وتُوفّيَ إِثرَ تلكَ الحادثةِ، ويُقالُ إِنَّهُ أَوْصَى تلميذَهُ اللّيثَ الكنانيَّ بإتمامِ تصنيفِ مُعجمهِ «العيْن»، وانتهتْ قِصَّتُه، لكنَّ حكايتَنَا لا تزالُ في بِدايَتِها.
*أساسُ البلاغة
توالتِ السّنونُ إلى القرنِ الخامسِ الهجريِّ، عندما اتَّخذَ أبو القاسم الزَّمَخْشَرِيِّ منْحَىً يُغايِرُ اهتمامَ العلماءِ بضبْطِ اللُّغةِ وحِفظِ مخزونِ ألفاظِها في مُصنَّفاتٍ ضخمةٍ لحمايَتِها من اللَّحْنِ، حيثُ ركَّزَ على معاني الكلمةِ ومجازاتِها في سياقاتِها المختلفةِ ضمنَ مَنهجٍ بَلاغِيٍّ، مُحدِثًا نقلةً نوعيَّةً في هذا المجالِ من خلالِ مُعجمهِ «أساسُ البلاغة».
عُرفَ الزَّمَخْشَرِيُّ بعشقهِ للُّغةِ العربيّةِ، ووظَّفَ مواهِبَهُ في مختلفِ العلومِ لخدمتِها، وحَرصَ على الاهتمامِ بالأُسُسِ البلاغيَّةِ الّتي دَرَسَتْ اللَّفظةَ المفْرَدَةَ وركّزتْ على علمِ المعاني والبيان، على عكسِ باقي المعاجمِ الّتي تسعى إلى جَمْعِ المفرداتِ وإِحصائِها، ففرَّقَ بين الدَّلالةِ الحقيقيَّةِ والمجازيَّةِ حسبَ السِّياقِ، ليرتقيْ بالكلماتِ من مستواها المعجميِّ إلى دلالاتِها المتغيِّرَةِ بتغيُّرِ الموقفِ، وأزالَ الغموضَ عنها.
وتنتقلُ بنا الحكايةُ إلى القرنِ السَّابعِ الهِجريِّ مع قصةِ أبي الفضل ابن منظور، الّذي دفعَهُ شغفُهُ باللُّغةِ العربيَّةِ إلى تأليفِ «لسانِ العرب»، أحدِ أشملِ المعاجمِ وأكبرِها وأغناها بالشَّواهدِ، حيث يتميّزُ بعرضِ الرِّواياتِ المتعارِضَةِ وترجيحِ الأقوالِ فيها، وتوثيقِ ما اشْتُقَّ من اللَّفظِ من أسماءِ القبائلِ والأشخاصِ والأماكنِ وغيرها، فجمعَ أكثَر من 80 ألفَ مادَّةٍ في موسوعةٍ لُغويَّةٍ وأدبيَّةٍ جاءتْ نتاجَ خمسةِ معاجمَ سابقة.
وحَرصَ ابن منظور على أنْ تتعدَّى فائدةُ «لسانِ العرب» المجالَ المعجميَّ إلى علومِ العربيَّةِ كافة وإلى دراساتِها الأدبيَّةِ، والنَّحويَّةِ، ويُقالُ إنَّهُ أُصيبَ بالعَمَى بسببِ قضاءِ مُعظمِ سنواتِ عُمرِهِ بالقراءَةِ والكتابَةِ، لكنَّهُ لم يحزنْ ولم يندمْ على بيانِ فضلِ اللُُّغةِ العربيَّةِ الّتي وَصفها بـ«النَّبويَّةِ»، وبَقِيَ يتغزَّلُ بها حتَّى وهو على فِراشِ الموت.
*تنوع
وشهدتِ تلك القرونَ وما بعدها ظهورَ عشراتِ المعاجمِ، لِكُلٍّ منها قصَّةٌ يَطَولَ سرْدُهَا، منها «تهذيبُ اللُّغة» للأزهريّ، و«المحيطُ في اللُّغة» للصَّاحب بن عبَّاد، و«المحْكمُ والمحيطُ الأعظم» لابن سيْدَه، و«الجِيْم» لأبي عمرو الشَّيبانيِّ، و«جمهرةُ اللّغة» لابن دُرَيْد، و«مقاييسُ اللُّغة» و«مجملُ اللُّغة» لابن فارسَ، و«تاجُ اللُّغة وصِحاحُ العربيَّة» للجوهريِّ، و«العُبابُ الزاخرُ واللُّبابُ الفاخر» للصَّغانيِّ، و«القاموسُ المحيطُ» للفيروز آباديِّ، و«تاجُ العروسِ من جواهرِ القاموسِ» للزَّبيديِّ، و«مختارُ الصِّحاح» لأبي بكرٍ الرَّازيِّ.
وتصلُ حكايتُنا إلى العصرِ الحديثِ، عندما تبلورتْ فكرةُ إصدارِ المعاجمِ الجماعيَّةِ بالاعتماد على فريقِ عملٍ من الكوادِرِ المتُخصِّصَةِ لصُعُوبةِ إنجازِ معجمٍ مُتكاملٍ بالكفاءةِ المطلوبةِ، فظهرَ «المعجمُ الوسيطُ»، الّذي شاركَ في تأليفهِ نُخبةٌ من اللُّغويِّين في مَجْمَع اللُّغة العربيَّة بالقاهرة، و«معجمُ اللُّغةِ العربيَّةِ المعاصِرةِ» لأحمد مختار عمر، بمساعدةِ فريقِ عملٍ ضخم.
*تأصيل
ويُتوِّجُ «المعجمُ التَّاريخيُّ للُّغةِ العربيَّةِ» حكايةَ إرْثِنا اللُّغويِّ وتُراثِنَا الثَّقافيِّ العربيِّ على مدارِ أكثرِ من 20 قرناً؛ ابتداءً بالنُّقوشِ واللَّهجاتِ القديمةِ من عصورِ ما قبل الميلادِ، مروراً بمصادرِ الشِّعرِ الجاهليِّ، وكُتُبِ التَّفسيرِ، وعلومِ القرآنِ، والحديثِ والسُّننِ وشروحِها، والفقهِ الإسلاميِّ وأصولِهِ، والسِّيرةِ النَّبويَّةِ، وكُتُبِ التَّاريخِ، وأمُّهاتِ كتبِ التُّراثِ العربيِّ، وجميعِ المعاجمِ والدِّراساتِ والأبحاثِ المعجميَّةِ واللِّسانيَّةِ، الّتي تُشكِّلُ جُزءاً يَسيْراً من مادّتِهِ المتكاملة.
يُؤصِّلُ «المعجمُ التَّاريخيُّ» تاريخَ الكلمةِ من حيث جَذْرها وصَرْفها في اللُّغةِ العربيّةِ، ويُقارنُ بين الألفاظِ العربيَّةِ والعبريَّةِ والأكَّاديَّةِ والسِّريانيَّةِ، ويعودُ إلى أصولِ الكلماتِ والمصطلحاتِ، ويُؤرِّخُ لمعانِيها وصِيَغِها وتقلُّباتِها وتراكيبِها، إلى جانبِ تاريخِ استعمالِها وتَطوُّرِها عبر الزَّمنِ، وُصُولاً إلى دلالاتِها الحديثةِ، مع رصدِ تاريخِ دُخولِ الكلماتِ المسْتَحْدَثة في اللُّغةِ، والكلماتِ الّتي اندثرتْ وأسبابِ زوالِها.
ويتولّى مَجْمَعُ اللُّغةِ العربيَّةِ بالشَّارقة إدارةَ اللَّجنةِ التَّنفيذيّةِ للمُعجمِ الّذي يُشاركُ في إنجازهِ عشرةُ مجامعَ عربيَّةٍ تحتَ إشرافِ اتِّحادِ المَجامِعِ اللُّغويَّةِ والعلميَّةِ في القاهرة، حيثُ جاءتِ الكلماتُ الّتي تبدأُ بحرفَيْ الهمزةِ والباءِ في ثمانيةِ مُجلَّداتٍ، وحروفُ التَّاءِ والثَّاءِ والجِيْمِ في تسعةِ مُجلَّداتٍ، وحروفُ الحاءِ والخاءِ والدَّالِ والذَّالِ في 19 مجلَّداً، وحروفُ الرَّاءِ والزَّايِ والسِّينِ والشِّينِ والصَّادِ والضَّادِ في 31 مُجلّداً، ليُصبِحَ إِجماليُّ عددِ الحُروفِ المحرَّرَةِ حتَّى الآن 15 حرفاً في 67 مُجلَّداً من المعجمِ، الّذي يَحُثُّ الخُطَىْ نحوَ إتمامِ سردِ حكايةِ عِشْقِ الثَّقافةِ العربيَّة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/pw8jdx94

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"