عادي
شاعرة روسيا العظيمة

مارينا تسفيتايفا.. حياة مكتوبة على قافية التشرد والألم

00:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
مارينا تسفيتايفا

القاهرة: «الخليج»
في رسالة وجهتها إلى إخوتها، توصيهم بابنها مور قالت: «اهتموا بمور الغالي، إن صحته هشة للغاية، أحبوه مثل ابن لكم، فهو يستحق، سامحوني، لم أتحمل، لا تتخلوا عنه أبداً، سأكون سعيدة حتى الجنون، إذا عاش عندكم، لا تتركوه».

وكان هذا آخر ما كتبته الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا (1890– 1930) ثم اختارت حبلاً كانت تحزم به أغراضها، وأقدمت على الانتحار، وعاد الجيران فرأوها مشنوقة، وقدماها تلامسان الأرض بالكاد.

شيع عدد قليل من الجيران جثمان مارينا إلى مثواه الأخير، لم يلق أحد عليه كلمة وداع، لم تنشر أي جريدة خبر وفاتها، لم توضع شاهدة قبر تحمل اسمها وتاريخي الولادة والوفاة، لم يسور القبر بحجر أو خشب أو علامات، لم يبق من أثر للشاعرة إلا ما خلفته من كتب ومخطوطات ويوميات.

يكشف كتاب «مارينا تسفيتايفا..بعض حياة وشعر» بترجمة وتقديم د. نوفل نيوف، أن مارينا لم تكن تهتم بشيء غير القراءة وحفظ الشعر، وكان كل شيء ينساب بداخلها إيقاعاً وموسيقى، ومنذ ثورة 1905 في روسيا مالت إلى اليسار، وفي ربيع 1907 استدعت المدرسة أباها، وطلبت منه أن يأخذ ابنته فنقلها الأب إلى مدرسة عادية.

مجموعة أولى

في السابعة عشرة من عمرها أصدرت في سرية تامة، وعلى نفقتها، مجموعتها الشعرية الأولى «ألبوم المساء» كانت في الصف قبل الأخير من المدرسة الثانوية، وقد نشرت عن هذه المجموعة مقالات ذات طابع إيجابي.

واجهت مارينا كلاماً قاسياً عن ديوانها الثاني، فأحد النقاد كتب: «إن جو القصائد تفوح منه رائحة عطن فاسدة للغاية»، فيما خلص آخر إلى أن مارينا «لم تبحث في مجموعتها الثانية عن شكل فني يخصها، فهي تكتب الشعر بمقدرة كبيرة، إلا أن لها موضوعها الخاص، عالمها الحميم، ما بين الطفولة والمراهقة بخصائصه الفردية، وبأسمائه أيضاً، إنه لمضجر أن تقرأ لها مرة أخرى في مجموعتها الثانية عن الأم وزميلاتها».

كان الإعلان عن بداية الحرب العالمية الأولى يوم 16 يوليو عام 1914 نقطة التحول المصيري الأكبر في حياة مارينا وأسرتها ووطنها روسيا، وقد اتخذت مارينا موقفاً معادياً ولا مبالياً أول الأمر، وفي ليلة 24 أكتوبر 1917 استولى الشيوعيون على قصر الشتاء، مقر الحكومة المؤقتة، واعتقل الوزراء، وبدأت حقبة جديدة تمثل منعطفاً في تاريخ روسيا، وربما العالم كله.

تحمل مارينا القيصر مسؤولية ما حدث، لكنها تبكيه، وتطالب بالحفاظ على حياته، وإطلاق سراحه مع أفراد أسرته من السجن، وانخرط زوجها بالعمل في الجيش ممرضاً عسكرياً أيام الحرب، ثم دعي إلى الخدمة والتحق بكلية الضباط، وفي أواخر عام 1917 قاتل الشيوعيين وانضم إلى جماعات الجيش الأبيض، وظل وفياً للنظام القيصري.

في بداية عام 1921 أكملت مارينا مجموعتها «معسكر البجع» كنشيد لتمجيد الجيش الأبيض، كتبتها ابتداء من الثورة الشيوعية حتى نهاية الحرب الأهلية، ولم يمض وقت طويل حتى طرق بابها فجأة ذات مساء باسترناك حاملاً لها رسالة، تؤكد وجود زوجها في مدينة براغ.

منذ تلك اللحظة بات همها هو الالتحاق بزوجها، وكان المثقفون الروس يعيشون أسوأ الأوضاع وأشدها خطراً، وكان غريباً أن تتمكن مارينا في هذه الظروف من السفر هي وابنها.

خوف

واجهت مارينا الفقر بشجاعة في براغ، على الرغم من متطلبات العيش القاسية، التي كانت تأكل وقتها، وتنهك أعصابها، وفي هذا الوقت حاولت نشر مذكراتها عن الثورة التي عايشتها في موسكو إلا أن الخوف من رد الفعل السوفييتي جعل الناشرين يرفضون تلبية رغبتها.

المفارقة أن تهمة الخيانة ومغازلة عملاء السوفييت، ألصقت بها وبزوجها، يضاف إلى ذلك الفقر وظروف الحياة القاسية على العائلة كلها، ما دفع الزوجين إلى التفكير سنة 1925 إلى الانتقال إلى باريس، وكانت حياة اللاجئين هناك محبطة، حتى أنها في نهاية عام 1926 تلقت رسالة مخيبة من هيئة تحرير مجلة «كتابات حديثة» التي كانت تنشر فيها دائماً في براغ تطالبها بالعودة إلى كتابة الشعر الواضح والكف عن اللعب الأسلوبي المعقد.

رفض أي منبر إعلامي التعامل معها، وبلغ الفقر بها حد تهديدها بالطرد من فرنسا، وتدفعها الحاجة والجوع إلى التنقل بين شقق بائسة أقل تكلفة وأشد برداً، وكان بيتها يخلو من الشاي والطعام، وتمتنع عن الذهاب إلى لقاء ضروري، لأن الحذاء الوحيد الذي تمتلكه لم يعد صالحاً للخروج، كانت خيبتها متعددة الوجوه.

انعدام ثقة

كانت مارينا تدرك أن البقاء مستحيل، يجب أن تعود إلى روسيا، فلا نقود لديها، ولا يمكنها النشر، وتشعر بالعداوة وانعدام الثقة تجاهها في كل مكان، وأخيراً أنهت غربة امتدت 17 عاماً وعادت إلى ليننغراد، لكنها عادت تعاني الوحدة نفسها، إنما ضمن ظروف حياة أشد وطأة وقسوة.

بدأت مارينا تختار مجموعة من قصائدها، تستجيب لشروط النشر، فهناك «لجنة قراءة» داخلية تقيم المخطوطات من الناحية الفنية، ثم تنظر في مدى صلاحيتها فكرياً لقارئ، يبني مجتمعاً اشتراكياً، وفي تقريره عن مخطوطة أشعار مارينا كتب المعتمد الأول من قبل السلطة: «إن عداء الشاعرة للسلطة السوفييتية وشدة رداءة شعرها نفسه وغموضه أمور تناقض علم الجمال الشيوعي، إن أسوأ خدمة يمكن تقديمها لمارينا تسفيتايفا هي أن نطبع مجموعتها الشعرية».

في عام 1950 أقر اتحاد الكتاب السوفييت الاعتراف بمارينا شاعرة عظيمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mpaz6skt

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"