احتقان خبيث

00:34 صباحا
قراءة 4 دقائق

بعض الهدوء أكثر ضجيجاً من الجلبة والصراخ، وبعض السلم أكثر توتراً من الحرب. الهدوء الذي يشبه الرماد الذي يعلو الجمر، والسلم الذي يخلق استدامة في الاستنفار، كلاهما مثيران للقلق، ومفتوحان على سيناريوهات غامضة. هنالك هدوء سلمي واضح بمعطياته وبيئته، وهنالك سلم يشبه الإصبع على الزناد، قد تضغط في أي وقت وتنطلق الرصاصات. ولهذا، فإن الوضوح، رغم كل بشاعته، أفضل من الغموض المنطوي على احتمالات الانفجار، ولكن السياسة، أو العمل السياسي بشكل عام، لا يؤمن بكشف جميع الأوراق دفعة واحدة، بل يكشف كل ورقة وفق طبيعة المرحلة.

هنالك احتقان غير مرئي للعامة يراه المتابعون المعنيون فقط، المنخرطون في اللعبة، الغارقون في تفاصيلها، ويراه هؤلاء الذين يضعون الأصابع على الزناد في انتظار شرارة ما. وسبب هذا الاحتقان هو الأمور المعلّقة، التي لم يتم حلّها جذرياً، إما بقصد لغرض في نفس يعقوب، وإما بسبب عدم القدرة على حلها، نتيجة لعوامل خارجية أو داخلية، إقليمية أو عالمية، لكن الحقيقة الواضحة هي أنها باقية من دون حل، ولن يهبط رجال من الفضاء للعمل على حلّها، والمنطق يقول إنه لا بد من حلٍ ما، قصير الأجل أو طويل الأجل، حتى نحصل على هدوء نسبي أو آخر تام.

في العالم العربي هنالك أكثر من قضية متفجّرة، أشبه بالقنبلة الموقوتة، أو بالبركان الذي يغلي، على رأسها القضية الفلسطينية، وعدم حل هذه القضية التي طال الصراع بشأنها، جعلها تنفجر أكثر من مرة، وفي كل مرة تخلّف ضحايا ونازحين وجرحى ومعاقين من كل الأطراف، والعالم يتفرّج كأنه يتابع مسلسلاً درامياً. وتكرار الأحداث الجسيمة البشعة أدى إلى اعتيادية مخيفة، بحيث ينظر العالم ببرود إلى هذه القضية، وكلما طال أمدها، كلما ازداد العالم بروداً واتكالية ولا مبالاة. كل ذلك لعدم الجدّية في التعاطي مع هذه القضية، لدى الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين والعالم. ومن المؤكد أن هنالك تحليلات كثيرة لإبقاء القضية متفجّرة، بعضها حقيقي ومنطقي، وبعضها يستند إلى نظرية المؤامرة، وبعضها يربط الأمر بالقدر، حتى أن البعض يستعين بأحاديث نبوية تتحدث عن صراع إلى يوم الدين، وهؤلاء يحوّلون القضية إلى صراع ديني عقائدي، وكل قضية تتحول إلى قضية عقائدية لن يتم حلها إلا بمعجزة، إذ يستبد التطرّف بكلا الطرفين، أو بكل الأطراف، وهكذا. والتاريخ يشهد على حروب دينية أودت بملايين الأرواح البشرية، والنتيجة، لم ينتصر أحد، ولم تنفع نظريات مثل العلمانية في التخفيف من حدتها، ولا نظريات مثل العولمة، بل لم يستطع العلم ولا التقنية المتطورة ولا التكنولوجيا الحديثة ولا ثورة الاتصال، التي حوّلت العالم إلى شاشة فضية، أن تحقّق الوئام والسلام بين الشعوب والعقائد والمذاهب، بل على العكس، تم استخدام التقنية في تطوير الأسلحة الفتاكة، وكأن الإنسان كلما تطور كلّما أصبح أكثر شراسة، في النهاية لم يتم حل مشكلة الفلسطينيين/ المسلمين، ولم يتم حل مشكلة الإسرائيليين/ اليهود، والبعض يشير إلى تداخل السياسة بالدين، لدى جميع الأطراف، كسبب جوهري أدى إلى استدامة الصراع والحروب والقتل.

وبخلاف القضية الفلسطينية، هنالك قضايا إقليمية أخرى لا تقل خطورة، في سوريا، والعراق، وليبيا، والسودان، واليمن، ولبنان، وجميعها قضايا متفجّرة، إذ يخطئ من يظن أن ما يُسمّى بالربيع العربي قد انتهى، وأن الجماعات المتطرفة استكانت وعاد أفرادها إلى بيوتهم، ففي سوريا، وإن تراجعت حدة القتال بين الجيش النظامي والمتطرفين، إلا أن هذا لا يعني انتهاء الصراع، وتراجع الفكر المتطرف، فهؤلاء لا يزالون يحتلون مناطق مهمة من الأرض السورية، ومدعومون من جهات إقليمية، مرةً تدعي محاربة الإرهاب، ومرّة تنحاز إلى طرف ضد طرف، لتبقى المنطقة متفجّرة. والأمر ذاته ينطبق على بلاد الرافدين، فالجماعات المتطرفة متجذّرة وتقوم بعمليات مؤلمة، وتربك السلم الأهلي، وحتى لو تجاهلنا المتطرفين، فإن الطائفية تزداد شراسة يوماً بعد يوم، ويتم الحديث عنها جهاراً. أما السودان، وما يشهده حالياً من صراع دموي على السلطة، فهو ناتج عن عدم وضع حلول جذرية بين الفرقاء والرموز والاتجاهات، والوضع كارثي بما تعنيه الكلمة من معنى.

وقد سرق قطاع غزة في فلسطين، والحرب الدائرة هناك، الأضواء مما يحدث في السودان، إذ انشغل الإعلام العربي، عن قصد أو عن حسن نيّة، بالحرب الجهنمية في قطاع غزة، رغم أن الدمار، وقوة البطش، وأعداد النازحين والقتلى والجرحى، قد تكون أكثر في السودان، نظراً لعدد السكان، وعلينا أن نتخيّل أن 15 مليون سوداني في حاجة إلى مساعدات فورية لتجنّب المجاعة، وهو أمر مخجل ومؤسف ويتحمل مسؤوليته المتحاربون.

هنالك مناطق متفجّرة أخرى مثل لبنان، فبالإضافة إلى الحرب مع إسرائيل، هنالك الفراغ الدستوري والنزعات الطائفية، وكذلك الأمر في ليبيا واليمن.

إن عدم وجود حروب في مناطق أخرى لا يعني أنها ليست مناطق متفجّرة، لأنها تعاني من عدم إيجاد حلول جذرية، ما يعني أن الاحتقان الخبيث سمة رئيسية في العالم العربي، باستثناء مجموعة من الدول التي حسمت أمرها وتخلّصت من الهدوء المستفز.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2r67vab5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"