عادي

مخطط «نورد ستريم».. الأسرار الكاملة لأكبر عملية تخريب في التاريخ الحديث

20:28 مساء
قراءة 7 دقائق
القارب المستخدم في العملية

إعداد ـ محمد كمال
بعد سيل من الاتهامات المتبادلة بين روسيا وأوكرانيا، حول واحدة من أكبر عمليات التخريب جرأة في التاريخ الحديث، والمتعلقة بخط غاز «نورد ستريم» الواصل بين روسيا وألمانيا، تتكشف تفاصيل مثيرة عن الوقائع الحقيقية للعملية، وكيف تم التخطيط والإعداد لها وصولاً إلى مرحلة التنفيذ.
وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، الخميس، أن رجل أعمال من القطاع الخاص قام بتمويل العملية التي أشرف عليها أحد كبار الجنرالات الأوكران، ووافق الرئيس فولوديمير زيلينسكي على الخطة، ثم حاول منعها بعد ضغط أمريكي من دون جدوى.
بداية التخطيط 
ويكشف التقرير أن التخطيط الغريب، بدأ التفكير فيه داخل حانة في وقت قريب من موعد إغلاقها، ففي مايو/ أيار 2022، اجتمعت حفنة من كبار الضباط العسكريين، ورجال الأعمال الأوكرانيين، وبدافع الحماسة، اقترح أحدهم خطوة جريئة تتمثل في: تدمير «نورد ستريم»، من منطلق أن خطَّي أنابيب الغاز الطبيعي اللذين ينقلان الغاز الروسي إلى أوروبا كانا يوفران المليارات لموسكو، ولذلك اعتبروا أن تخريبهما أفضل طريقة للرد على العملية العسكرية الروسية.

الصورة


وبعد ما يزيد قليلاً على أربعة أشهر، من هذا التاريخ، وفي الساعات الأولى من يوم 26 سبتمبر/ أيلول، التقط علماء الزلازل الإسكندنافيون إشارات تشير إلى وقوع زلزال تحت الماء، أو ثوران بركاني على بعد مئات الأميال، بالقرب من جزيرة بورنهولم الدنماركية. واتضح أن ذلك ناجم عن ثلاثة انفجارات قوية، صُنفت كأكبر إطلاق مسجل للغاز الطبيعي قاطبة، ما يعادل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون السنوية في الدنمارك.
واعتبرت هذه العملية واحدة من أكثر أعمال التخريب جرأة في التاريخ الحديث، حيث أدت إلى تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا، وهو اعتداء على البنية التحتية الحيوية يمكن اعتباره عملاً من أعمال الحرب، بموجب القانون الدولي. ثم تناثرت النظريات حول من المسؤول. هل كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، أم الأجهزة الروسية.

يخت صغير وامرأة 
وكلّف تنفيذ العملية الأوكرانية الضخمة نحو 300 ألف دولار فقط، بحسب الأشخاص الذين شاركوا فيها. وكانت الرحلة عبارة عن يخت صغير مستأجر يضم طاقماً مكوناً من ستة أفراد، بما في ذلك غواصون مدنيون مدربون، بينهم امرأة، ساعد وجودها على خلق الوهم بأنهم مجموعة من الأصدقاء في رحلة بحرية ممتعة.
وقال أحد الضباط الذين شاركوا في العملية: «أضحك دائماً عندما أقرأ تكهنات وسائل الإعلام حول بعض العمليات الضخمة التي تشمل أجهزة سرية، وغواصات، وطائرات من دون طيار، وأقمار اصطناعية.. لقد ولد الأمر برمته في إحدى الليالي، بتصميم حديدي لحفنة من الناس الذين لديهم الشجاعة للمخاطرة بحياتهم».
وبعد اتفاق مايو/ أيار 2022 بين رجل الأعمال وضباط الجيش، تم الاتفاق على أن يقوم الأول بتمويل المشروع والمساعدة على تنفيذه، لأن الجيش لم يكن لديه أموال وكان يعتمد بشكل متزايد على التمويل الأجنبي. وأشرف على المهمة جنرال ذو خبرة في العمليات الخاصة، والتي وصفها أحد المشاركين بأنها «شراكة بين القطاعين، العام والخاص». ثم يقدم تقاريره مباشرة إلى قائد القوات المسلحة الأوكرانية آنذاك، الجنرال زالوزني، والذي يعمل حالياً سفيراً لأوكرانيا في بريطانيا.
وفي غضون أيام، وافق زيلينسكي على الخطة، وفقاً لأربعة أشخاص مطّلعين على الخطة، إذ تم إجراء جميع الترتيبات شفهياً، من دون ترك أي أثر ورقي. لكن في الشهر التالي، علمت وكالة الاستخبارات العسكرية الهولندية MIVD بالمؤامرة، وحذرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وفقاً لعدد من الأشخاص المطلعين على التقرير الهولندي. ثم أبلغ المسؤولون الأمريكيون ألمانيا على الفور.
وقال مسؤولون أمريكيون إن وكالة المخابرات المركزية حذرت مكتب زيلينسكي لوقف العملية. حيث أمر بإيقافها، لكن الجنرال زالوزني تجاهل الأمر، وقام فريقه بتعديل الخطة الأصلية.
وقام الجنرال المكلف بقيادة العملية بتجنيد بعض كبار ضباط العمليات الخاصة في أوكرانيا من ذوي الخبرة في تنظيم مهام سرية شديدة الخطورة ضد روسيا للمساعدة على تنسيق الهجوم.
وكان أحدهم رومان تشيرفينسكي، العقيد الحائز على أوسمة، والذي خدم سابقاً في جهاز الأمن والمخابرات الرئيسي في أوكرانيا. ويحاكم حالياً في أوكرانيا بتهم غير ذات صلة. وفي يوليو/ تموز، أُطلق سراحه بكفالة بعد أكثر من عام من الاحتجاز. وبعد الاتصال به بعد إطلاق سراحه، رفض التعليق على قضية نورد ستريم، قائلاً إنه غير مخول بالتحدث عنها.
وفي مقابلة إذاعية لاحقة، قال إن هذا التخريب كان له تأثيران إيجابيان في أوكرانيا: فقد ساعد على تخفيف قبضة روسيا على الدول الأوروبية الداعمة لكييف، ولم يترك لموسكو سوى طريق رئيسي واحد لتوجيه الغاز إلى أوروبا، وهو خطوط الأنابيب التي تمر عبر أوكرانيا. وعلى الرغم من الحرب، تجمع أوكرانيا رسوم عبور مربحة للنفط والغاز الروسي تقدّر قيمتها بمئات الملايين من الدولارات سنوياً.
المخطط 
درس تشيرفينسكي وفريق التخريب في البداية، خطة قديمة ومفصلة لتفجير خط الأنابيب صاغتها المخابرات الأوكرانية، وخبراء غربيون، بعد حرب عام 2014، وفقا ًلأشخاص مطلعين، وبعد رفض هذه الفكرة بسبب كلفتها، وتعقيدها، استقر المخططون على استخدام قارب شراعي صغير، وفريق مكون من ستة أفراد - مزيج من الجنود المتمرسين في الخدمة الفعلية والمدنيين ذوي الخبرة البحرية - لتفجير خطوط الأنابيب التي يبلغ طولها 700 ميل، ومستقرة على عمق أكثر من 260 قدماً تحت سطح البحر.
وفي سبتمبر/ أيلول 2022، استأجر المتآمرون يختاً ترفيهياً بطول 50 قدماً يسمى أندروميدا، في مدينة روستوك الساحلية ،على بحر البلطيق في ألمانيا، بمساعدة وكالة سفر بولندية أنشأتها المخابرات الأوكرانية كغطاء للمعاملات المالية منذ ما يقرب من عقد من الزمن، وفقاً لضباط أوكرانيين، وأشخاص مطّلعين على التحقيق الألماني.

الصورة


وقال أشخاص مطّلعون على التحقيق الألماني، إن أحد أفراد الطاقم، وهو ضابط عسكري في الخدمة الفعلية وكان يقاتل في الحرب، كان رباناً متمرساً، وأربعة من الغواصين ذوي الخبرة في أعماق البحار. وكان من بين أفراد الطاقم مدنيون، أحدهم امرأة في الثلاثينيات من عمرها، تلقت تدريباً خاصاً على الغوص. حيث تم اختيارها بعناية لمهاراتها، ولكن أيضًا لإضفاء مزيد من المعقولية على تنكر الطاقم كأصدقاء في العطلة، وفقاً لشخص مطّلع على التخطيط.
التنفيذ والخطأ القاتل 
انطلق الطاقم، وهو مسلح فقط بمعدات الغوص، والملاحة عبر الأقمار الصناعية، والسونار المحمول، وخرائط مفتوحة المصدر لقاع البحر تحدد موقع خطوط الأنابيب. وعمل الغواصون الأربعة في أزواج. ومن خلال العمل في المياه الجليدية المظلمة للغاية، استخدموا مادة متفجرة قوية تُعرف باسم HMX تم توصيلها بأجهزة تفجير يتم التحكم فيها بواسطة مؤقت.
وأجبر الطقس العاصف الطاقم على التوقف غير المخطط له في ميناء ساندهامن السويدي. وقام أحد الغواصين بطريق الخطأ بإسقاط عبوة ناسفة في قاع البحر. وقال شخصان مطّلعان على العملية إن الطاقم ناقش لفترة وجيزة ما إذا كان يجب إلغاء العملية بسبب سوء الأحوال الجوية، لكن العاصفة سرعان ما هدأت.
وفي أعقاب الهجوم الذي أدى إلى تدمير ثلاث من القنوات الأربع التي تشكل خطوط الأنابيب، ارتفعت أسعار الطاقة. وسارعت ألمانيا ودول أخرى إلى تأميم شركات الطاقة التي تتعامل مع الغاز الروسي، لكنها انهارت بعد تدمير خطوط الأنابيب. وحتى اليوم تدفع ألمانيا وحدها نحو مليون دولار يومياً، لاستئجار محطات عائمة للغاز الطبيعي المسال، والتي حلت جزئياً فقط محل تدفقات الغاز الروسي التي يوجهها «نورد ستريم».
لكن المثير هو أنه أثناء تسرّع الطاقم في مغادرة ألمانيا، أهمل تنظيف المركب المستخدم، ما سمح للمحققين الألمان بالعثور على آثار متفجرات، وبصمات أصابع، وعيّنات من الحمض النووي للطاقم.
وتعرف المحققون في وقت لاحق إلى أرقام هواتفهم المحمولة، وهواتفهم الفضائية من نوع إيريديوم. وسمحت لهم هذه البيانات بإعادة بناء رحلة القارب بأكملها، التي رست في ألمانيا، والدنمارك، والسويد، وبولندا. 
وأرسلت ألمانيا، والدنمارك، والسويد، والولايات المتحدة، من بين دول أخرى، سفناً حربية وغواصين وطائرات من دون طيار تحت الماء، وطائرات للتحقيق في المنطقة المحيطة بتسربات الغاز.
ووبّخ زيلينسكي الجنرال زالوزني، لكنه تجاهل ذلك، وتحجج بأن فريق العملية، بمجرد إرساله، ظل في عزلة عن العالم الخارجي، ولا يمكن إلغاء التنفيذ، لأن أي اتصال معهم قد يعرض العملية للخطر. 
منصب دبلوماسي 
وفي وقت سابق من هذا العام، أقال زيلينسكي الجنرال زالوزني من منصبه العسكري، قائلاً إن هناك حاجة إلى تغيير لإعادة إطلاق المجهود الحربي. وتم تعيين زالوزني، الذي كان يُنظر إليه محلياً على أنه منافس سياسي محتمل، سفيراً لأوكرانيا لدى المملكة المتحدة، وهو المنصب الذي يمنحه الحصانة من الملاحقة القضائية. 
وفي يونيو/ حزيران، أصدر المسؤولون الألمان مذكرة اعتقال سرية بحق مواطن أوكراني يعتقد الألمان أنه كان أحد أفراد الطاقم، بعد أن التقطت كاميرا سرعة ألمانية شاحنة صغيرة كانت تقود فريق التنفيذ الأوكراني من بولندا إلى ألمانيا، في عام 2022، وكان الرجل، وهو مدرب غوص يعيش مع عائلته بالقرب من وارسو، ضمنهم. ولم تتصرف السلطات في بولندا بناء على مذكرة التوقيف. ويعتقد أن المدرب عاد منذ ذلك الحين إلى أوكرانيا.
ويعتقد المسؤولون الأوكرانيون الذين شاركوا في المؤامرة، أو كانوا على دراية بها، أنه سيكون من المستحيل محاكمة أي من الضباط القياديين، لأنه لا يوجد دليل سوى المحادثات بين كبار المسؤولين الذين كانوا، على الأقل في البداية، متفقين جميعاً على الرغبة في التفجير. وبالطبع لن يشهد أي منهم حتى لا يعرض نفسه للإدانة.
الأزمة مع ألمانيا 
خلال تحقيق أجرته الشرطة الألمانية لمدة عامين تقريباً في الهجوم، توصلت إلى أدلة بما في ذلك البريد الإلكتروني، والاتصالات عبر الهواتف المحمولة، والهواتف المتصلة بالأقمار الصناعية، إضافة إلى بصمات الأصابع، وعيّنات الحمض النووي من فريق التخريب المزعوم. ولم يربط التحقيق الألماني بشكل مباشر الرئيس زيلينسكي بالعملية السرية.
وفي يونيو/ حزيران، أصدر المدعي الفيدرالي الألماني بهدوء، مذكرة الاعتقال الأولى في هذه القضية بحق مدرب غوص محترف أوكراني. فيما يركز التحقيق الألماني الآن على زالوزني، ومساعديه، على الرغم من عدم وجود أدلة لديهم يمكن تقديمها إلى المحكمة.
ويمكن أن تؤدي النتائج إلى قلب العلاقات بين كييف وبرلين، التي قدمت الكثير من التمويل والمعدات العسكرية لأوكرانيا، بل تحل في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. وربما كان بعض القادة السياسيين الألمان على استعداد للتغاضي عن الأدلة التي تشير إلى أوكرانيا خوفاً من تقويض الدعم. لكن الشرطة الألمانية مستقلة سياسياً.
وقد ألقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باللوم علناً على الولايات المتحدة في الهجمات. وردّد دبلوماسي روسي كبير في برلين هذا الادعاء، وقال إن نتائج التحقيق الألماني كانت «حكايات خيالية».

نفي رسمي من كييف

ورداً على التقارير الغربية التي أكدت تورط كييف في الحادثة، اعتبر مستشار في الرئاسة الأوكرانية، الخميس، أن التلميح بضلوع كييف في تخريب خطي أنابيب «نورد ستريم» للغاز هو «محض هراء».
وقال المستشار ميخايلو بودولياك: إن «ضلوع أوكرانيا في تفجيرات نورد ستريم هو محض هراء. لم يكن ثمة أي مغزى عملي لأوكرانيا في خطوات كهذه».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yp8p5wcp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"