عادي
يحيي ما أثير حول إطلاق «أبولو11» إلى القمر برومانسية

«فلاي مي تو ذا مون».. عندما يكون الكذب السياسي أمناً قومياً

23:20 مساء
قراءة 5 دقائق
أبطال الفيلم

مارلين سلوم

لا تُطوى صفحات الأحداث التي يعرفها البشر مهما مر عليها زمن، فغالباً ما يأتي أحد صناع السينما لينبش في تلك الدفاتر ويعيد إبراز أوراق وفتح قضايا وملفات وتسليط الأضواء بطريقة مختلفة على ما سبق أن عرفه الناس وقرؤوا وسمعوا عنه مراراً وتكراراً؛ هكذا يعيد المخرج جريج بيرلانتي الأضواء إلى نجاح ناسا في إرسال رجالها إلى الفضاء عبر «أبولو 11»، حيث أصبح الأمريكي نيل أرمسترونج أول إنسان وضع قدمه على سطح القمر؛ بيرلانتي لا يقدم جديداً علمياً في «فلاي مي تو ذا مون»، بل يحرك المياه الراكدة بإعادة طرح قضية «الكذبة الدعائية» وهل وطِئت قدم أرمسترونج أرض القمر فعلاً أم أنها مجرد فيلم تمثيلي أمريكي صنعته السياسة لكسب سباق الفضاء الذي كان مشتعلاً بين روسيا وأمريكا، وكانت روسيا قد سبقت غريمتها بخطوات، بينما تعثرت المحاولات الأمريكية مراراً وشهدت احتراق ثلاث رواد فضاء في مقصورتهم عام 1967؟

الترجمة الحرفية لاسم الفيلم «طِرْ بي إلى القمر» توحي لك بأنه رومانسي، وتصنيفه يؤكد ذلك مع الإشارة إلى أنه رومانسي كوميدي، لكن القصة التي تشدك أكثر والتي يركز عليها صناع الفيلم ويقدمونها بقالب رومانسي ظريف، هي قصة الأكاذيب السياسية، وكيف يمكن تغيير الرأي العام وتزييف الحقائق وفبركة أحداث تخدم الفكرة التي يراد تسويقها ليصدقها الناس.. وينطلق المؤلفون كينان فلين وبيل كريستين وروز جلروي من نظرية المؤامرة التي رافقت نجاح «ناسا» في إرسال رواد الفضاء على متن «أبولو 11» وإتمام المهمة بنزول نيل أرمسترونج على سطح القمر حيث تم التقاط الصور وبث مقاطع فيديو أرسلها الرواد من هناك، مرفقة طبعاً بالرسائل الصوتية المباشرة التي سمعها الملايين حول العالم في يوليو 1969؛ في ذلك الوقت انتشرت شائعات أن الشريط هذا مفبرك وتم تصويره بشكل سري واحترافي على الأرض..

جوهانسون بأزياء الستينيات

الهبوط الوهمي على القمر والخطة السرية وصعوبة التمييز بين الحقيقة والكذب، هي النقاط الأساسية لهذا الفيلم الذي نجح من خلاله المخرج جريج بيرلانتي في تقديم عمل متكامل متقن فنياً وجمالياً، الديكور والأزياء والأماكن تشعرك بأنك تشاهد فيلماً صنع في الستينيات وأبطاله يخرجون مباشرة من ذلك العصر بكل أناقتهم وتصرفاتهم وأسلوب الحياة.. «فلاي مي تو ذا مون» -من إنتاج شركة كولومبيا بيكتشرز- يغرف من علم الفضاء دون أن يغرق فيه، يقطف من السياسة ما يناسبه ويدعم قصته بمقاطع حقيقية أرشيفية تظهر الفكر السائد في ذلك الوقت وتركيز السياسة الأمريكية على أهمية الوصول إلى القمر وأهمية دعم ناسا، في وقت وجد فيه نواب في مجلس الشيوخ الأمريكي أن الصراع الأمريكي الروسي على الفضاء يتسبب في أزمات اقتصادية ومادية ومنهم من رفض أي دعم لمشاريع الفضاء، وهي نقاط شدد عليها المخرج بيرلانتي خصوصاً في إظهاره جزء من المبنى الذي يعمل فيه رجال ناسا وهو يفتقر إلى أبسط الإمدادات مثل إصلاح ثلاجة المياه والمشروبات، مكاتب متهالكة.. وعبارة يقولها بطل الفيلم كول ديفيس (تشانينج تاتوم) وهو مدير عمليات إطلاق المركبات إلى الفضاء: «كل يوم لدينا شيء يتعطل هنا ويتوقعون منا أن نهزم الروس؟».

إبهار العملاء

جريج بيرلانتي لا ينطلق بفيلمه من ناسا والفضاء والقمر.. بل من امرأة شديدة الذكاء تدعى كيلي جونز (سكارليت جوهانسون)، تبهر العملاء ببراعتها في إقناعهم بفكرة تبيعها لهم؛ جونز تتمكن من لفت الأنظار لدرجة أن يختارها مو بوركس (وودي هارلسون) أحد المستشارين العاملين في مكتب الرئيس الأمريكي لتتعاون مع الحكومة لبيع برنامج الفضاء للشعب الأمريكي. كيلي تتميز بقدرتها على قراءة الناس ومعرفة نقاط قوتهم وضعفهم، فتتسلل بجمالها وابتسامتها وكلامها المنطقي لتقنعهم بسرعة بما تريد الترويج له؛ هكذا تنتقل مع مساعدتها روبي (آنا جارسيا) إلى مقر ناسا حيث يتم الإعداد لإطلاق أبولو 11 خلال ثمانية أشهر.

الاختلاف كبيــر وواضــح بين كيلــي وكول، فهــي تجيــد فبــركة الأكاذيــب لتجعـــل الجميــع يصـــدق أنهـــا حقيقــة، وهو لا يجيـــد إلا قـــول الحــقيــقــة مهــمـــا كــانـــت قـــاسية وصعبة، وبطبيعة عمله وخدمتــه الطويلــة كأحــد أهــم الطياريــن فــي القـــوات الجويـة الأمريكية قبل أن يصبح مدير عمليات الإطلاق في ناسا، يجد صعوبة في تقبل فكرة الظهور الإعلامي ويرفض في البداية فكرة الترويج الإعلاني لبرنامج الفضاء والمشروع الذي أطلقوا عليه «أرتميس».. لكن بلباقتها تستطيع كيلي إقناعه بأفكارها غير المألوفة، وتسهم في جذب المعلنين فيبدأ الدعم المالي لناسا وتتحسن بالتالي أوضاع المبنى والموظفين.

أناقة وألوان

مصممة الأزياء ماري زوفرس، لعبت دوراً مهماً في هذا الفيلم، وهي أحد أسباب نجاحه من حيث الشكل ودرجة اقترابها من الحياة الفعلية لتلك الفترة، والأناقة في الهندام والألوان المريحة والملابس المناسبة التي تعكس جزءاً من طبيعة كل شخصية.. جوهانسون متفوقة بدور كيلي، مرحة حيوية وذكية، رومانسية لكن طبيعتها تتغلب على عواطفها معظم الوقت، فالمصلحة تأتي في المركز الأول، وإقناع الناس بفكرتها مهمة لا تتخلى عنها ولا تستسلم إلا بعد نجاحها؛ تختلف مع كول من حيث الفكرة والمبدأ، فهو من وجهة نظره كل ما تفعله كيلي أنها تكذب على الناس فتجذب المعلنين، بينما تجيبه «نحن نبيع ولا نكذب».. الجزء الثاني من الفيلم تبرز فيه أكثر فأكثر نظرية المؤامرة والكذب.. مع اقتراب موعد إطلاق «أبولو 11»، حيث يطلب «مو» من كيلي ضرورة تصوير المهمة الفضائية وبثها بشكل مباشر على الشاشات حول العالم، ثم يفرض عليها تصوير مهمة بديلة، تحاكي بشكل دقيق ومتطابق مع سيناريو هبوط الرواد على القمر، بحجة أن هذه خطة طوارئ يتم اللجوء إليها في حال تعثرت المهمة الحقيقية وفشلت، ويقول لها: «المهم أن يرى العالم أمريكا تهزم روسيا»، لأنه من وجهة نظره ليس سباقاً علمياً على الأولوية في الفضاء بل هو سباق لتقرير الأيديولوجية التي ستحكم العالم.

النسخة المزيفة

سر يتم إخفاؤه عن كول ولكن هل يستمر العمل به؟ وهل النسخة التي رآها العالم عام 1969 هي المزيفة؟ وهل يريد صناع العمل تأكيد فكرة أن بعض ما يراه الناس من أحداث كبرى يكون مفبركاً وتتم صناعته في غرف سرية؟ كثيرة التساؤلات التي يحثك العمل على التفكير فيها، ومن أهم تلك النقاط جملة تقولها البطلة «تعلمت من أمي النصب، وحين كبرت استثمرت ذلك في الإعلانات والتسويق.. أصبحت أقوم بعمليات نصب قانونية»؛ لكن الفيلم في النهاية ينتصر لحقيقة يقنعك بها عبر تغليب المشاعر وصحوة الضمير، ويؤكد في نفس الوقت أن السيناريو البديل كان جاهزاً لاستخدامه في حال فشلت المهمة الحقيقية، وكان معداً ليكون متطابقاً تماماً للواقع ويعجز عن اكتشافه أي أحد لدرجة أن كول نفسه وكيلي من وراء المونيتور لم يتمكنا من التمييز بين ما يرسل الرواد وما يتم تصويره في المحاكاة البديلة في الاستوديو المجاور.

اختــيــار منــاســـب

تشانينج تاتوم مناسب لدور رجل المهمات الصعبة، يبدو شديد الوقار والحزم، غامض، وفي نفس الوقت يحتاج إلى من يمسك بيده ليداوي جراحه.. اللمسة الرومانسية ناعمة في الفيلم، تشعر بوجودها وإن لم تظهر طوال الوقت، والروح الكوميدية أيضاً تلطف الأجواء ولا تطغى، فتمضي بمشاهدة الفيلم نحو ساعتين وربع الساعة دون أي لحظة ملل؛ اختيار جيد للممثلين، واختيار مناسب أيضاً للمناظر الطبيعية وأماكن التصوير، وقد نجح المخرج في اختيار مقتطفات أرشيفية من تلك الفترة سواء عبر الأحداث السياسية والعالمية المرافقة أو للحظة إطلاق أبولو وانتظار العالم للحدث الكبير، مقتطفات دمجها بالمقاطع التصويرية دون أي خلل أو فوارق كبيرة تستفز العين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yhtbtnx7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"