ملف ... قراءة بانورامية في منجز الجيل الثمانيني الغائب

شكلت المرأة والبحر وتحولات المجتمع أهم هواجسه
00:39 صباحا
قراءة 16 دقيقة
شهد عقد الثمانينات من القرن الماضي حضوراً إماراتيا قويا ولافتاً في مختلف فنون الكتابة والإبداع، حيث تألقت في تلك المرحلة مجموعة من الأسماء المحلية من خلال نصوص تجريبية واقعية، متجذرة في ذاتها وهويتها لكنها من جانب آخر تعبر وبأساليب مختلفة، عن تفاعلها مع تحولات المجتمع والمدينة في الإمارات. ومن بين تلك الأسماء نذكر سلمى مطر سيف وسارة حارب وسعيد الحنكي ومريم جمعة فرج وإبراهيم الهاشمي وماجد بوشليبي وغيرهم. هذه الأصوات الجادة والجريئة ولأسباب مختلفة، انسحبت من الساحة الثقافية مع نهايةعقد الثمانينات حيث فضلت الهجرة نحو الصمت. وفي هذه القراءة البانورامية نحاول استعراض أهم ملامح المنجز النصي لهذا الجيل الثمانيني المتميز والغائب أغلبه اليوم.غلب على موضوعات القصة القصيرة الثمانينية وحتى السبعينية أيضا، الطابع الوطني والانساني، في حين نجد الأصوات الجديدة تتمحور موضوعاتها حول الجوانب الذاتية والحميمية. اليوم توجد في الإمارات مجموعة من الأصوات الإبداعية الجديدة، فهل ستصمد ثقافيا وتكتب لها الاستمرارية، أم أنها سيصيبها ما أصاب جيل الثمانينات؟إعداد: سعيد جاب الخيرفي أحد اللقاءات الإعلامية، قالت الشاعرة والقاصة منى مطر وهي من جيل الثمانينات: جيلنا انكفأ وتراجع. لقد كان جيلاً كلاسيكياً على أية حال، ولا أدري ما الأسباب التي دفعت أسماء جيل الثمانينات الى الانكفاء، ربما يعود ذلك الى المد الجديد من الكتابة الجديدة، وربما يعود ذلك الى ظروف الحياة نفسها. ويلاحظ أن الكاتبة منى مطر لم تجمع قصصها في كتاب حتى الآن، ولكنها في العام 2005 أصدرت مجموعة شعرية تحت عنوان أوراق الماء عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات.عارف الخاجة يعتبر أيضا من أبرز شعراء الجيل الثمانيني، علما أنه إعلامي وحاصل على الليسانس في اللغة العربية شعبة الإعلام تخصص علاقات عامة من جامعة الأزهر في القاهرة عام 1980.تولى رئاسة التحرير التنفيذية لمجلة المنتدى وعمل في مدينة الإعلام للانترنت. أصدر عدة مجموعات شعرية من بينها بيروت 11 وجمرة العقبة الصادرة عام 1983 عن دار الطليعة في الكويت واتحاد كتاب وأدباء الإمارات عام ،1986 وقلنا لنزيه القبرصلي الصادرة عام 1986 عن المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، علي بن المسك التهامي يفاجئ قاتليه الصادرة عام 1989 عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، من المعسكر الصادرة عام 1990 عن دار الخليج وغيرها.ويعد الشاعر عارف الخاجة من طليعة شعراء التفعيلة الإماراتيين منذ أوائل الثمانينات، حيث نجح في إدراج اسمه ضمن الشعرية العربية الكلاسيكية بوجه حداثي واثق، وتميز بالتنوع والدقة والذكاء في تقديم أعماله الأدبية، وشاعرنا من مواليد دبي عام 1959.وازدادت التجربة الإبداعية المحلية عمقاً في مرحلة الثمانينات التي أضافت أسماء شابة متأثرة بمدارس أدبية مختلفة وخاصة مدرسة الحداثة. أسماء حظيت باهتمام إعلامي وثقافي، واحتفي بها من خلال تأسيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الذي أصبح وجوده ضرورة حتمية في تلك المرحلة مع مضي الساحة المحلية في جذب التجارب المختلفة ودفعها إلى جرأة اقتحام الإبداع مكتسبة من الخبرات العربية ملامح خاصة بها.وفي خطوة مهمة للتوثيق أصدر الاتحاد كتابين وثق فيهما أسماء تلك الفترة، كتاب كلنا نحب البحر لمجموعة من كتاب القصص القصيرة الإماراتيين، وكتاب قصائد من الإمارات للشعراء. وما أن انتهت الثمانينات، حتى كان عددٌ كبيرٌ من الأدباء قد أكمل انسحابه عن الساحة الأدبية في الوقت الذي كانت تؤسس كما يبدو لنص إماراتي معاصر له خصوصيته وملامحه سواء بالنسبة لكتاب الشعر أو كتاب القصة من الجنسين.حضور الشعرفي الوقت الذي كان فيه جيل ما بعد الثمانينات بعيداً بمسافات متفاوتة عن الساحة الشعرية في الإمارات، كانت كوكبة من الأسماء في الثمانينات تعيش الشعر إنتاجاً كتابياً غزيراً، وحضوراً في الفعاليات الأدبية خاصة عبر الصفحة الثقافية أو الملحق الثقافي في الخليج حيث أحيطت تلك الأعمال الأدبية برؤى نقدية وافية أسهمت في دعم التجربة الشعرية.في تلك المرحلة استمتع القراء بكتابات منى سيف وأمينة عبد العزيز ورؤى سالم وسارة حارب وابتسام سهيل وأحمد سعيدان وعمر المرزوقي وهاشم الموسوي ومحمد الشيباني وعبيد موسى وهالة حميد معتوق، وغيرهم من الذين مثلوا مرحلة تاريخية مهمة كانت جديرة بالتسجيل والرصد على رغم أن تجارب البعض كانت ما تزال في طور النمو والتشكل.كانت الساحة تموج بجماليات التمازج الفكري والثقافي بين الإماراتيين والمثقفين من العرب الوافدين، وهي جماليات يفترض أن تتوحد واقعياً وتاريخياً من خلال مقومات الوحدة التي تجمع الأمة العربية بصرف النظر عن مستويات تجسدها في الواقع. كانت المعارك الأدبية في تلك المرحلة أكثر وضوحاً وصراحة ومواجهة. على رغم ما كانت تؤول إليه أحياناً من نتائج قد تبدو للبعض غير مرضية. وكانت قصائد بعينها تأخذ حظها من القراءات النقدية والاهتمام الإعلامي الواسع.تجارب ورؤىكان ثمة نوع من السجال الخافت بين شاعرات المرحلة والمجتمع بسبب ما ظهر للبعض أنه لغة مشاغبة تحدت الكلام المألوف لتتحول إلى إعلان صارخ يقرؤه الجميع، فكانت الحيلة التي لجأت إليها الشاعرات كي يعطين أنفسهن فرصة لبوح أكثر حرية، وهي التواري وراء أسماء مستعارة.لذلك لن نستغرب أن الشاعرات رؤى سالم، وسارة حارب، ومنى مطر سيف، وحصة طالب إضافة إلى شاعرات الشعر الشعبي مثل أنغام الخلود، وفتاة الشارقة، وفتاة دبي، حملن هذه الأسماء ليحافظن على حضورهن.في ظل هذا الواقع تكرست أسماء عشقت الشعر وأحبت أن يكون لها نصيب منه، فجعلته الهوية الإبداعية الأساسية في تجربتها. فمن بين شاعرات الثمانينات نجد رؤى سالم، سارة حارب، ابتسام سهيل، أمينة عبد العزيز، حصة عبد الله، فرح مختار، ليلى أحمد (وهي قاصة أيضاً)، منى مطر سيف وهالة حميد معتوق وغيرهم. وبينما تابعت كل من ميسون القاسمي وظبية خميس ونجوم الغانم مشروعاتهن الشعرية رغم انقطاعات زمنية كن يلجأن فيها إلى الصمت لأسباب مختلفة، فإن صمت الأخريات طال إلى درجة أنه أصبح وكأنه إعلانٌ غير معلن لعدم العودة إلى الساحة.الغيابكل نفس إنسانية تنطوي على خصائص واستعدادات قد تفاجئ حتى صاحبها أحياناً. ولا شك في أن حياتنا تختزن هموما تتعدى كونها اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك. إنها هموم حياتية تسلب الإنسان وقته وجهده. والنساء متأثرات بشكل كبير وعميق بكل ما يحيطنا من قضايا وإن كانت الأسرة تشكل علامة فارقة في حياتهن الإبداعية، الأمر الذي يجعلهن أمام خيارين: إما الأسرة وإما الإبداع.وهنا تفضل المرأة تجنب الاصطدام معها بهدف أن تكمل مسيرة الحياة آمنة مطمئنة بعيدا عن كدر الإبداع الذي يمكن أن يقلب موازين الاستقرار العائلي الذي أصبح هدفها الأساسي، وهي في حالة كهذه غير ملومة، لأن حضورها الإبداعي لا يضمن لها ذلك الأمان خاصة أن البعض قد يشكك في موهبتها. وغالباً ما تنسى المرأة نفسها أمام عوالم أكبر من عالمها، ومشاكل أكبر من همومها، دائماً تنظر إلى العالم ككل متكامل بسبب مسؤولياتها الأسرية. فثمة شاعرات استغرقتهن هموم خارج الأسرة خاصة إذا كان المجتمع يعيش ظرفاً استثنائياً.ويبدو أن من بين أسباب اعتزال مبدعات ومبدعي الثمانينات وابتعادهم عن الساحة، أن التشجيع في تلك المرحلة رغم توفره، لم يكن كافياً لا في الجانب المعنوي ولا في الجانب المادي، حيث كانت العين دائماً على المبدعين العرب أكثر مما كانت على المبدعين المحليين. لذلك أدار هؤلاء ظهورهم للساحة الأدبية كما أدارت لهم ظهرها فرفضوا النشر ورفضوا الحضور.وعلى رغم فوران الحركة الأدبية في الثمانينات وما تضمنت من اختلافات في الآراء وصلت أحيانا إلى حد الصراع، إلا أن بعض نتائجها لم تكن لمصلحة الساحة، فأدت إلى صمت البعض واستمرار البعض الآخر في حضور متقطع، تاركين للأسماء الجديدة مساحة لحضور آخر، حضور ينقصه ثقل التجربة التي يمثلها الرعيلُ الأول من الشعراء.قد لا تنطبق كل هذه الأسباب على جميع شعراء ومبدعي الثمانينات، فثمة من استبدلوا الحضور الشعري بالحضور في المجال الأكاديمي، مثل الدكتورة ابتسام سهيل. وثمة من استغرقن في هموم البيت والأمومة مثل الشاعرة هالة حميد معتوق التي كان حضورها مميزاً ومؤثراً في الوسط الأدبي، ولكن نسيت نفسها أمام عوالم أكبر من عالمها. وثمة من شغلتهم الوظيفة مثل رؤى سالم، ومن تكتب ولا ترغب في النشر.كتبت الشاعرة رؤى سالم:طيور المساء ستحملنا لضفاف الحنيننحن الذين حملنا الحنين هويةونورسة في الفؤاد تعششترسم قبلتها للمجيء الجديد.وكتبت الشاعرة ابتسام سهيل قبل أن تنشغل في النشاط الأكاديمي:حينما أعلنت ولادة طفليالفرحاستنكر السلطان جرأتيوحاربتني المدينةالمسورة بالحصون العاليةكالكفن.سعيد سالم الحنكي، كاتب وقاص من رأس الخيمة وهو أيضا من جيل الثمانينات، عضو في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات منذ ،1986 كتب عدة مقالات، ومن مؤلفاته قصة بعنوان عبد الله الصغير وصية الصادرة عام 1984 وهي منشورة ضمن كتاب كلنا نحب البحر الصادر عن اتحاد الكتاب عام ،1986 وقصة بعنوان باقة ورد منشورة في العدد الأول من مجلة شؤون أدبية الصادرة في شتاء عام ،1986 توقف عن الكتابة القصصية وغاب عنها وعن الحركة الثقافية في الإمارات منذ فترة طويلة، على رغم ظهوره على الساحة الثقافية في الإمارات منذ الثمانينات وهي بداية المرحلة الجنينية للقصة والشعر في الدولة.ماجد بوشليبي، ينتمي أيضا لهذا الجيل الثمانيني، حيث تقاطع مساره مع مسار الكاتب المسرحي (الناشئ آنذاك) سالم الحتاوي حيث كان ممن شجعوه على الكتابة والإبداع. يقول الحتاوي:نقطة التحول في حياتي كانت في الثامنة عشرة من عمري، وكانت أولى قراءاتي عن المسرح العالمي، لكن النصوص لم تشدني كثيراً، فقرأت لسعد الله ونوس وسعد الدين وهبة ثم صقر الرشود وعبدالله السريع. وبعد فترة بدأت أقرأ بعين النقاد، حتى تولدت لدي فكرة الكتابة المسرحية. كنت أخجل مما أكتب وأحرص على ألا يرى نصوصي أحد.وفي عام 1985 سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الهندسة الالكترونية، وهناك بدأت أشعر بالغربة والحنين للوطن وللأهل والأصدقاء، وترجمت هذا الحنين في كتابات كثيرة. كنت أتعجل الانتهاء من الدراسة في الجامعة حتى أعود إلى البيت لأكتب فكرة تلح على رأسي، والحق أنني استفدت من تجربة الاغتراب وخرجت منها بنصوص أعتز بها كثيراً.كنت بعيداً تماماً عن الساحة الثقافية لجهلي بها، إلى أن جاء عام 1992 لأشارك في ورشة للمسرح حول الكتابة والإخراج والفنيات الأخرى، وكان يحاضر فيها عمر غباش وإبراهيم سالم وماجد بوشليبي ووليد عمران ويحيى الحاج، وكنت أركز مع ماجد بوشليبي في جانب التأليف.التفاعل مع الحداثةلم يجد الكاتب الإماراتي بُداً من هذا الاغتراب الذي ضاعفته إضافة الى الظروف العربية المشتركة، مرحلة النفط التي قسمت اللحظة المكتوبة الى ماقبل النفط ومابعده. وكان لذلك تأثيره في اللغة ومغامرتها وتجريبيتها في المعاصرة والحداثة. أنتج التفاعل الإبداعي مع الحداثة معطيات جديدة اعتمدت البناء على الموروث وأضافت إليه. ولأن الكاتب الإماراتي عكس ذلك من خلال نصوصه، فانه أدرك أن اللغة ظاهرة وعالم قابل للخلق والتحول والتغير من داخله.حالة التفاعل بين مرحلتي ما قبل النفط وما بعده، أفرزت حياة متحاكية مع المؤثرات الخارجية كالتكنولوجيا والانفتاح على العالم وعودة الشباب المتعلم من الخارج والاحتكاك بمظاهر الثقافة الحديثة وانتشار النوادي الثقافية الاجتماعية، إضافة الى مشاركة المرأة الفاعلة في التنمية الشاملة.ربما تكون الحالة الحداثية الطارئة على الواقع المحلي، حملت بعض المفردات السلبية التي جعلت البعض يغترب، ومن المؤكد أيضا أنها مثلت للبعض حالة إيجابية ساعدت على ابتكار رؤى ومواقف جديدة من الحياة.من المحاكاة إلى التجريبيمكن القول إن مرحلة السبعينات مثلت مرحلة المحاكاة، حيث انطلقت حركة النشر بعد ظهور وسائل الاعلام المختلفة، لتفتح الصحافة المجال أمام الكتابات الشابة الواعية في الشعر والقصة والمقالة. في هذه المرحلة بدأت التجربة الإبداعية المحلية تشق طريقها من خلال أسماء مثل راشد عبد الله الذي يعتبر أول من كتب الرواية في الإمارات حيث أصدر شاهندة 1973 وعبدالله صقر الذي كان أول من أصدر مجموعة قصصية، وعبد العزيز خليل وعلي الشرهان ومحمد السويدي وغيرهم. أما مرحلة الثمانينات فيمكن وصفها بأنها مرحلة التجريب في الإبداع الإماراتي. وتبدأ هذه المرحلة حسب النقاد، من 1979 حيث انعطف النص الإماراتي عن أطواره السابقة وبدأ يثبت فاعليته في الساحة الثقافية، وذلك بقوة غايرت نفسها ودخلت تجريبيتها في مختلف مجالات الإبداع من شعر ورواية وقصة وتشكيل ومسرح.ومن خلال دراسة هذه المرحلة يتبين أن مايترسب في البعد الاجتماعي من حنين إلى عادات وتقاليد وأعراف مرحلة ما قبل النفط في الخليج عموما والإمارات خصوصا، قد انعكس في التجربة الإبداعية الثمانينية متناسلاً على هيئة رموز موروثة ومنغرسة في الذاكرة النصية الجديدة. ومن بين تلك الرموز على سبيل المثال لا الحصر: النخيل والبحر والصحراء، حيث باتت رموزا ثابتة ومشتركة، تباينت دلالاتها تبعاً لطاقة كل كاتب، وتبعاً لإحالة هذا الرمز الى احتمالات متغيرة ومتنوعة وازت ببعدها الثقافي الأبعاد الناتجة عن مرحلة ما بعد النفط حيث استقرت في الرواية والقصة القصيرة والشعر.أفرزت مرحلة الثمانينات نتاجات روائية وقصصية تراوحت بين الواقعية والتعبيرية والرمزية والرومانسية، ومن أهم هذه التجارب: راشد عبدالله في شاهندة ومحمد الحربي في أحداث مدينة على الشاطئ وحكايا قبيلة ماتت والخروج على وشم القبيلة، وعلي راشد في ساحل الأبطال وماجد بوشليبي وعلي عبيد وأمينة بو شهاب وعبدالله صقر، ومريم جمعة وفاطمة محمد وغيرهم.السرد كلغة حاملة لعناصر القص، أخذ هو الآخر أشكالا مختلفة في هذه التجارب من بينها المباشرة والحكائية والسرد الواصف والسرد المركب الذي ثاقف بين عناصر القص الأخرى كالحدث والحبكة والشخوص والمنطقة المحيطة بالشخوص والزمكانية النفسية والطبيعية والنصية، والحوار بنوعيه: الديالوج والمونولوج. كما تنوع السرد التركيبي أيضا في هذه التجارب حيث جاء في شكل فجوة توترية، إيماضية، شعرية تكثف جملتها وحياتها ومواقفها وتمرداتها وانسجاماتها واختلافاتها، جاعلة من البنية القصصية ذروة متفاعلة بين البنيتين المكتوبة واللامكتوبة، الظاهرة والباطنة، محولة القصة الى عالم له مخيلته وحواسه وأرواحه وجراحه وأحلامه، ومركبة في هذا العالم رؤية الكاتب المتحركة من الخلف ومن الخارج، بحيث إننا في حال المزج بين الرؤيتين نجد أن القصة الثمانينية تتكون مشكلة ما يعرف ب قصة الحالة التي نجدها في نتاج عدد من رموز هذا الجيل.وتمظهرت الرؤية الزمكانية في المنجز الثمانيني من خلال مكونات رئيسية ثلاثة هي: الزمكانية الطبيعية في مفردات البحر والبيت ومكان العمل ووسائل النقل واليوم والنهار والليل وغيرها. والزمكانية النفسية من خلال انعكاسات حالة الكاتب على الأمكنة الطبيعية وتوسله بعناصر هذه الأمكنة للوصول الى مرآة المعنى المنعكسة على الذات الكاتبة من خلال مفردات مثل الرمل والشجر والمساء والفجر وغيرها من الرموز.الزمكانية النصية وهي تلك المتحركة بين لغة القص وبنياته الأخرى والحاملة أيضا للزمكانيتين السابقتين. أما الأنا الكاتبة عند هذا الجيل فقد انقسمت أنوات أخرى كانت الظلال الناطقة لأنا الكاتب الصامتة، حيث أخذت الأنا الأخرى تحولاتها الظلالية من شخصيات قديمة ومعاصرة وحتى خرافية وأدخلتها في الأنا المتخيل. والسمة الملاحظة لأغلب الشخوص هي القهر والتمرد والاتجاه الى الموت أو الفراغ أو الحلم.ملامح النص الشعريمع ظهور القصيدة الحديثة في الامارات، بدأت الرؤية الشعرية بالانبثاق من فضاء لغوي مختلف وذلك على صعيد التعامل مع الصورة الشعرية وحواسها ومقدرة الذات الشاعرة على الدخول الى المتخيل المتراكم في الباطن النصي والمتضمن للهموم الذاتية والوطنية والقومية والجوانب الإنسانية الأخرى التي تتضمن مفردات الطبيعة والتراث. ومن أهم التجارب الشعرية في هذا المجال: ناصر النعيمي، سعود الدوسري، عبدالرحيم عبدالله، عبدالله بن خصيف، جعفر الجمري، خالد بدر، عارف الخاجة، محمد بن حاضر، هالة معتوق، إبراهيم الهاشمي، مانع العتيبة، عارف الشيخ، وغيرهم.يقول إبراهيم الهاشمي في مجموعته مناخات أولى في قصيدة تحت عنوان امنحيني فقط لون عينيك كتبت سنة 1982:أنا هكذا، يا بلادي، سقيم،فقدت نجومي،ومهرة لم تعد تحتويني،كما الأمس مثل الألق.هنا البحريفقد خارطته،فيمتد بحر بقلبي،يغرق نجمه صبحترسم العشق عيني،وجرحي القديم ينز ضلوعي.امنحيني فقط لون عينيك،وأنا أصنع البحر،والمد،والفجر،والعاصفة.تطور المجتمع الإماراتي في عقدين ماتطورته مجتمعات أخرى في قرنين، حيث مر بتغيرات في سائر المجالات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، حيث انعكست هذه التغيرات على مختلف مظاهر الحياة وعملت القفزة الاقتصادية على نقل المجتمع بشكل حاد وعنيف من النمط التقليدي إلى المعاصرة. هذه التحولات أثرت في الإبداع عامة وفي الفن القصصي بصفة خاصة الذي سجل ظهوره علامة من علامات التحول الاجتماعي ونتيجة له، إضافة إلى انتشار التعليم وازدهار الصحافة. فالتعليم جعل من الممكن وجود الكاتب المبدع والقارئ المتذوق، والإعلام كان ولا يزال حلقة الوصل بينهما.وإذا كانت مفردات البحر والصحراء والنخيل والحنين تعود كثيرا في نص إبراهيم الهاشمي، فإن نص عارف الخاجة في المقابل محمل بروح الالتزام بالوطن والعروبة وبخاصة قضية فلسطين كما يبدو واضحا في مجموعته بيروت 11 وجمرة العقبة وجميع نصوصها كتبت سنة 1982 حيث يقولفي قصيدة تحت عنوان بيروت 1: سعد صايل:هي تفعيلاتك الكبرى مراياوانتعاشات وصاياوطنٌ يخلع عنه الكفناقام لله يغني الوطناقد ولدت الآن عشرين نبياوزمانا أبدياقد ولدت الآن شعباسوف يبقىسوف يبقىيأكل الصخر ويرميه شظايا.تفوق قصصي نسائييلاحظ أن نسبة القاصات في المجموعة القصصية المشتركة كلنا نحب البحر وصلت إلى حوالى 35% من مجموع القاصين المشاركين أي 7 قاصات من بين 26 قاصاً وهي نسبة مهمة قياساً إلى أدب القصة في أية دولة عربية على الإطلاق. وبالاعتماد على هذه المجموعة الأنطولوجية والمجموعة الثانية الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات لسنة 1989م والتي شملت 12 قصة يتراوح إنتاجها بين 1970 و 1987م، نجد أنه ضمن 38 قاصاً توجد 14 قاصة مجموعة منهن من جيل الثمانينات، وهي ظاهرة اعتبرها البعض استثنائية ونموذجية بل ومغامرة باهرة.هذه الظاهرة تحملنا على التساؤل: هل هذا الكم الكبير نسبياً من النصوص الإبداعية الثمانينية النسائية، مؤشر على أن المبدعة الإماراتية في تلك المرحلة بلغت درجة من النضج الفني أهلها للإسهام بهذا الكم؟يظهر أن المرأة بدت في تلك المرحلة أقدر من الرجل على معالجة مشاكلها واستشراف معاناتها والتعبير عن همومها، وتظل هي الأقدر على تصوير انعكاسات التطور الاجتماعي على وضع المرأة والمجتمع عامة، علما أن وضع المرأة في أي أمة يعد من بين أهم المعايير لقياس درجة تقدمها.ومن أبرز مظاهر التحول الاجتماعي في قصص المبدعات الإماراتيات من جيل الثمانينات، تركيز الكاتبات على المرأة كشخصية محورية. فالتيمة القصصية التي تحظى بحصة الأسد في هذه النصوص، قبل تيمة البحر هي تيمة المرأة وأوضاعها. ويظهر ذلك جليا في نصوص مثل النشيد لسلمى مطر سيف، والمفاجأة لسارة النواف، والمسافة لليلى أحمد. بينما نجد تيمة المرأة تلي في الأهمية والحساسية تيمة البحر في قصص الرجال من الجيل نفسه.القهر عند القاصات الإماراتيات من هذا الجيل والذي قبله، يمثل أيضا تيمة فاقعة وفاجعة تتمثل في جانبين، الأول اعتقال جسد المرأة وروحها واتخاذها متنفساً وحلية منزلية، والثاني تسليع جسد المرأة والمضاربة عليه من خلال لعبة المهور والأجور. وفي الحالين معاً تدفع المرأة ثمن الخطيئة الأولى والخطايا اللاحقة وتنهض علامة فارقة على التحول الذي مس المجتمع حيث تنطوي على ذاتيتها بحراً ملغوماً من الأحاسيس والأشواق. وتنفتح بوابات الحزن والألم نتيجة للتناقض بين العالم الداخلي للشخصية والعالم الخارجي لها، فالفتاة التي تنتظر فتى أحلامها تشعر بالخيبة والإحباط حين يتقدم إلى أهلها، فيرفضونه لضيق ذات يده، والأسرة تأمل في رجل ميسور الحال، لأن قيم الحياة تغيرت وأصبحت المعايير المادية هي التي تحكم علاقات البشر ولم يعد ثمة مكان للعواطف.في المجموعة الأنطولوجية كلنا نحب البحر ترسم القاصة أمينة بوشهاب في قصة لها بعنوان هياج حالة وعي قصوى تتولد وتتبلور في نفس آمنة وزوجة عبدالرحمن موسى الرجل الثري الذي يعاملها معاملة السيد للعبد، حيث تدور الأحداث بين قطبين من الزمان الحاضر والماضي. المرأة القادمة من حي الصيادين، حي فقير تغلب عليه العلاقات الإنسانية الحميمية الصادقة، لاتستطيع أن تتأقلم مع عالم الثروة الجديد، عالم المجاملات الزائفة والعلاقات المبنية على النفاق الاجتماعي. المرأة في هذه القصة سجينة العالم الجديد المترع بالبذخ والسالب لإنسانيتها. تشيأت وتعطبت حركتها وجمد نبض الحياة فيها، هذا العطب حاولت زرعه في الأشياء من حولها. وفي لحظة هياج تكتشف آمنة أنها رغم وعيها لواقعها لاتستطيع تغييره. إن هذه القصة ذات صلة قوية بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمع الإمارات.التزام بقضايا المجتمعالقاصة سلمى مطر سيف اتخذت هي الأخرى من المرأة رمزاً تناولت من خلاله العديد من القضايا الاجتماعية، ومعظم قصصها تدور حول هذه التيمة. والمرأة في قصص سلمى مطر مقياس للتغيير الاجتماعي، حيث تطرح في قصة العرس المنشورة في الخليج بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول سنة ،1983 قضية الزواج المبكر وآثاره النفسية والاجتماعية في المرأة. ومن خلال شخصية حمامة شابة في سن الثامنة عشرة زُج بها في مرحلة أكبر من عمرها وجردت من حق التمتع بطفولتها، صورت القاصة بطلتها تدافع عن حقها بجميع الوسائل. وهنا تبرز القاصة ما للقضية من خطورة في حق إنسانية المرأة.وفي قصتها ساعة وأعود نكتشف ملمحاً جديداً عند القاصة وهو محاولة استخدام عنصر الأسطورة مع بداية سردية خطابية مستمدة من ينبوع التراث العربي في القصص والملاحم والسير الشعبية حيث تصورُ فتاة مسجونة لم تخرج إلا مرة واحدة وطال انتظار أبيها ولكنها لم تعد.تصف القاصة المرأة في مجتمع متحول وتصف موقف المجتمع من خروجها إلى الشارع، حيث تتبع الفتاة أحد الصيادين وتركب قاربه.وعندما تقوم بسحب شبكته يشعر بأن يدا تشاركه فيراها ويجزع ويقفل عليها قاع المركب. وبعد انتهائه من العمل يبحث عنها فلا يجدها.المرأة في قصص سلمى مطر سيف هي عصب الحياة ومقياس تطور البيئة الاجتماعية وانسجام الأطراف الرئيسية فيها بعضُها مع بعض، أو تنافرها. ويصل هاجس سلمى مطر سيف بهموم المرأة أوجه في قصة عشبة وقد أعطتها الكاتبة في وصفها شكل العنزة على لسان مصبح الذي تزوجها للاستيلاء على مالها ولتنجب له الأولاد بعد فشله مع زوجته الأولى التي اختارتها له. لقد أهملت عشبة منذ الصغر، لم يهتم بها خالها. وزوجة مصبح تعاملها مثلما تعامل بقرة حلوبا تلد عجولاً أصحاء. فقد أخذت زوجة مصبح ابنة عشبة منذ اللحظة التي أنجبتها فيها دون أن تكترث بأمومتها.وأحب مصبح عشبة حد الجنون وبنى لها منزلاً أبيض على قمة الجبل. وهناك بدأت عشبة رحلة النزول إلى النفق المظلم، ولم تضحك إلا عندما أحضر لها مصبح ابنها. وتموت عشبة إثر تناولها وجبة دسمة من الزبدة والعسل المصفى وهي المعتادة على شرب الحليب من أثداء الماعز والعيش معها. إنها قضية تأقلم الإنسان في مدينة حديثة وجديدة إلى درجة يقوده عدم تأقلمه مع الواقع الجديد إلى الموت.وتوصلت سلمى مطر سيف في هذه القصة إلى صياغة بعيدة عن المطلق والدخول إلى محارة الذاتي حيث لم تنقل الواقع كما هو بل أعادت صياغته وتكثيفه، فكانت الأسطورة بمعنى التمثيل الحكائي أي الامتداد الداخلي للأفكار والهواجس والانتقال عبر دروب الزمن، تمثل أهم محددات بنيتها الفكرية.القاصة مريم جمعة رسمت صورة واقعية للمرأة في قصتها عبار فهي أسيرة مجتمع استهلاكي يمكن أن تشترى فيه كأي بضاعة، وتعتبر مريم جمعة من الكاتبات الأوليات اللواتي خضن غمار القصة القصيرة منذ السبعينات وواكبت التطور الذي حدث في هذا المجال، وتعكس قصصها وعي الإنسان بمعاناته اليومية وتكشف مواطن الخلل في العلاقات الإنسانية في مجتمع التحول في الإمارات.البحر في النص المحليإن القصة الإماراتية عامة تقص البحر والقصة الثمانينية لاتخرج عن هذا المحور، فالبحر فيها هو أفق المغامرة وأفق الكتابة وليس اعتباطاً أن تمهر المجموعة الأولى بهذا العنوان التوكيدي كلنا نحب البحر وهو مستوحى من إحدى قصص سلمى مطر سيف، فالبحر هاجس مركزي للقصة القصيرة الإماراتية وحق دلالي ترميزي من طراز خاص. ويمثل هذا العنصر إحدى خصوصيات القصة الإماراتية، فالبحر يضمخ القصة الإماراتية بعطره والبحر يعني في السياق القصصي الفضاء المكاني الطوبوغرافي الذي يؤطر الأحداث والشخوص ويحدد هويتها وخصوصيتها. ومن هنا جاء النص القصصي المحلي أكثر غوصاً في تصوير النوازع الإنسانية ووصف نوازع البحارة في بداية موسم الغوص. وتختار سلمى مطر سيف في قصة النشيد، النوخذة لترمز به إلى الجشع والتسلط والقوة في بيئة بحرية حيث يأتي وصف الساردة لجدها: إن له فؤاد نوخذة يدفن غواصيه في عمق البحر بقلب بارد.لوحة رمزيةارتبطت نفس الإنسان الإماراتي بالبحر وغدا شيئاً كبيراً في وجدانه وكثرت مغامراته معه، الأمر الذي جعله حاضراً بقوة في المتن الإبداعي، فهو لوحة رمزية يعكس الحالة الإنسانية الوجودية وهو منبع الخيرات والثروة وهو لحظة الخوف والتوجس وهو موطن الفرار من القيود البشرية وعالم التطهر والذوبان في المطلق وهو أيضا الفضاء الرومنسي للمحبين والمعين اللغوي للمفردات التراثية لعالم الغوص لأنه عالم زاخر بالأحاسيس الإنسانية المتناقضة. لهذا يسيطر البحر على ذهن سلمى مطر فيحتل حيزاً واسعاً في وجودها ولذلك تكثر من وصفه. وكثيراً مايقترن البحر بالمخاطر وصورة الجوع ويستأثر بحيز من القصة القصيرة كجزء من الماضي، إذ الفاصل الزمني بين القديم والجديد قصير جداً بالحساب التاريخي في حياة الشعوب ولعلنا لانستبعد أن كل مبدع أو مبدعة امتهن أفراد عائلته البحر. وثمة سبب آخر هو أن البحر أصبح لإنسان المدينة الحديثة ملاذاً من تعقيدات المدينة في المجتمع الجديد، فقد وقفت القصة الإماراتية، والنسوية على وجه الخصوص، أمام البحر موقف المسجل الراصد دون الغوص في أعماق المغامرة البحرية والنفاذ إلى عمق العلاقات الاجتماعية في بيئة البحر والتعمق في أغوار البحارة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"