الحضارة الغربية.. من يقلب الصفحة؟

03:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

عاش فوكوياما يثير صخباً ويغيب. فاجأ الكثيرين بنظرية عن نهاية التاريخ. أدت وظيفتها ورحلت مخلفة وراءها قلة محدودة من المنظرين ورجال السياسة في الغرب. عاشت هذه القلة سنوات تنشر التفاؤل الذي توهمته نظرية نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية نصراً أبدياً. ساهم في الصخب المثار بعض إنجازات العولمة على صعيد التجارة وحرية الانتقال وكفاءة الاتصال والتواصل. بعد قليل انخفض وتباعد صدى الإنجازات ليسمح لسلبيات العولمة بالكشف عن نفسها. برزت الولاءات الأولية. عاد الناس يتمسكون بحقوق وهويات أغفلوها حين استسلموا لإغراءات العولمة من دون كثير تدبر أو تفكير.
غاب سنوات قليلة وعاد مع صحوة الهويات. وقتها كان مد العولمة قد بدأ ينحسر. مع هذا الانحسار أو بسببه أفاقت شعوب وجماعات متأهبة ومتحمسة لاستعادة التعريف بهوية كانت تحملها ونزعتها عنها العولمة. شعوب وجماعات أخرى انزوت من تلقاء نفسها، حانت أمامها فرصة الاحتجاج بالهوية الأولى، الديانة أو الطائفة أو العلامة الجغرافية. كانت الصرخة واحدة بالكلمات نفسها، أنا من قوم كذا أو من دين كذا أو من طائفة كذا. لا أقبل أن أكون بالتعريف مواطناً في وطن لا يعترف بهويتي الأولى أو يقلل من شأنها ولا يعطيها حقها في قوانينه ودساتيره. انكشف استعجال فوكويوما، فها هو التاريخ لم ينتهِ. أيضاً اكتشفنا استعجاله أثناء أزمة البحث عن هويات نغطي بها عورات عرتها العولمة. في أوروبا عادت تطل علينا برؤوسها أشكال متنوعة من القوميات بزعم الخوف من هجرات متزايدة، ولشعور عميق عن تغول سلطات المفوضية الأوروبية. تبين بالوضوح الممكن أن الإيطاليين يحنون إلى روما، والإسبان في أغلبيتهم يحنون إلى مدريد، واليونانيين يؤكدون عشقهم لأثينا. مرت سنوات عديدة ولا تزال بروكسل بعيدة كل البعد عن حلم لن يتحقق في الأجل المنظور، حلم أن تصبح ذات يوم فتجد نفسها في قلوب الأوروبيين عاصمة لهم.
هذه وغيرها أمور اكتشفها فوكوياما، الباحث اللامع، خلال رحلته المجيدة في الوثائق وكتب التاريخ والمجتمع. المهم أن الانتصار الكامل للحلم الليبرالي الديمقراطي ومنظومات القيم العالمية- خاصة الإنسانية منها- لم يتحقق، وما تحقق منه يبدو لنا الآن عاجزاً عن الاستمرار وفي الأغلب لن يصمد. أنا شخصياً لم يفاجئني ما تسرب من كتاب جون بولتون، الرجل الذي تولى مؤخراً أعلى مناصب الأمن القومي الأمريكي، وهو الرجل نفسه الذي تحمس أيّما حماسة لغزو العراق وتنفيذ خطط المحافظين الجدد داخل وخارج أمريكا. لم يفاجئني ما تسرب من الكتاب، وبخاصة ما نقله عن نقاش دار بين الرئيس ترامب ورئيس الصين. جاء في النقاش حديث يشجع الرئيس الصيني على الاستمرار في سياسته قمع مليون من السجناء المسلمين في معسكرات عمل. الرئيس الأمريكي المسؤول عن قيادة العالم في اتجاه تحقيق الحلم الموعود، حلم نهاية التاريخ والانتصار النهائي لليبرالية الغربية، يعيد تأكيد فحوى رسالة الرجل الأبيض.
لم أتردد وأنا أضيف منظر ضابط أبيض يدق بركبته الثقيلة عنق رجل أسود على أسفلت شارع في مدينة مينابوليس بولاية مينيسوتا إلى جملة أحداث تدافعت في الأيام الأخيرة، وفي رأيي سوف تسهم في عملية تغيير جوهري في مسيرة الحضارة البشرية. لأول مرة منذ زمن طويل تشترك كل ألوان، أقصد أجناس، البشر في كارثة لم يخطط لها أو ينفذها واحد منهم، فرداً كان أو أكثر. قضى الناس بسببها أياماً عديدة في رعب شديد. سقط موتاً ملايين منهم. جربت ملايين أخرى الانعزال. تغيرت سلوكيات، وكلنا في انتظار عالم بترتيبات مختلفة.
اجتمعت أحداث كبرى. كارثة إنسانية لا تفرق بين أبيض وأسمر، وشيطان مدمر للحضارة والتحضر مقيم في البيت الأبيض، وأزمة اقتصادية طاحنة، وثورة عارمة في صفوف الشعوب السوداء ضد مظالم وفساد وعبودية فرضها الرجل الأبيض، وإعلان موثق ومؤكد من أعلى هيئة في القيادة الصينية يوجه ما يشبه الإنذار لمن تسول له نفسه التدخل في هونج كونج أو سنكيانج أو غيرهما من أقاليم الصين، وانقسام معلن ومهين داخل المعسكر الغربي. هو نفسه المعسكر حامل رسالة الحضارة التي يعيش العالم في ظلها وتحت اسمها منذ خرجت إلينا من أثينا في عصر الإغريق.
هل أبالغ فأقول إن العالم كما عرفناه صار استمراره محل شك. سقطت الرسالة الوحيدة التي خطتها يد بشر لإدارته وإخضاع الشعوب والثقافات الأخرى لهيمنة ثقافة صنعت في الغرب الأبيض. اخترت فرانسيس فوكويوما تجسيداً لنموذج تأليفي لمفكر سياسي من أصول غير بيضاء اعتنق رسالة الرجل الأبيض.
يكاد فرانسيس فوكوياما يقول للأمريكيين البيض والسمر والسود وأبناء جلدته الصفر، ها أنا وقد نجحت. أنا كنت مقبولاً لدى حملة رسالة الرجل الأبيض، وأحاول الآن صياغة رسالة توفيقية تصلح كثقافة عامة لكل الأمريكيين. لن تصلح بطبيعة الحال لكل الشعوب. لن ننسى أن رسالة الرجل الأبيض لم تكن محبوبة ولا مرغوبة عند الشعوب غير البيضاء لكنها عاشت قروناً. الصينيون مثلاً لن يقبلوا قيماً تستعيرها الثقافة الجديدة من رسالة الرجل الأبيض، والسود الأمريكيون لن يصدقوا بعد اليوم كلمة واحدة تذكرهم بعهد ساد فيه وهيمن رجل أبيض سيّئ السمعة وكريه اللسان ومتدني الإحساس اسمه دونالد ترامب. هل حقاً نجح فرانسيس وأمثاله؟ أم حان أوان الانتقال إلى فصل جديد في كتاب الحضارات. وفي هذه الحالة من ذا الذي سوف يقلب الصفحة؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"