لبنان وفرنسا ودروس التاريخ

03:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

بعد انفجار مرفأ بيروت، لم يكتفِ الرئيس الفرنسي بإرسال المساعدات كما فعلت العديد من الدول؛ بل آثر أن ينقل تضامنه مع لبنان واللبنانيين عبر زيارته بيروت، ولقائه الناس بشكل مباشر، في رسالة واضحة، لا تقبل أي لبس؛ وهي أن فرنسا لن تسمح بغرق لبنان، الذي كان لفرنسا قبل مئة عام الدور الرئيسي في ولادته، وبقيت على مدار عقود بعد استقلال لبنان حاضرة في حياته وسياساته واقتصاده وجامعاته وثقافته، ويمكن القول: إن المعنى الأول للزيارة كان إظهار حرص فرنسا على عدم انزلاق لبنان إلى سيناريوهات أسوأ، في ظل اضطراب إقليمي كبير.
هل الأمر له علاقة بإعادة دورة التاريخ مرة أخرى؟ أم أن ثمة فوارق كبيرة ينبغي رصدها في قراءة الموقف الفرنسي؟
بين زيارتيه الأولى والثانية، قام الرئيس ماكرون بحشد دعم مالي إسعافي للبنان؛ وذلك مع عدد من الدول الأوروبية، إضافة إلى أمريكا؛ لكن الدعم المالي لم يكن دعماً غير مشروط، وإنما تضمن عدداً من الشروط، الواجب تطبيقها من قبل الحكومة اللبنانية، ومن ورائها الأحزاب والتيارات الرئيسية، ويمكن القول: إن أهمها إنتاج حكومة جديدة، بعيداً عن التجاذبات السياسية، ومساعدتها من قبل جميع الأطراف؛ لتقوم بأدائها، وهيكلة النظام المالي اللبناني؛ عبر الحوكمة والشفافية، خصوصاً أن الأزمة المالية اللبنانية بدأت مع أزمة المصارف.
قبل مئة عام، كانت فرنسا من القوى الصاعدة عالمياً، في الوقت الذي تلاشت فيه السلطنة العثمانية، ولعبت فرنسا دوراً إمبراطورياً في ساحات عديدة في آسيا وإفريقيا، أولت فيه التركيبات الاجتماعية للدول التي انتدبت عليها دوراً مهماً في صياغة تلك الدول، وبالتالي صياغة مصالحها الخاصة. ويمكن القول: إن جزءاً من سياسات فرنسا الإمبراطورية، قام على ترتيب شكل من أشكال المحاصصة بين المكونات الاجتماعية في الدول التي وقعت تحت سيطرتها، وهو ما يتناقض مع جوهر فرنسا نفسها؛ حيث الدولة العلمانية، دولة المواطنة؛ وحيث إن المجتمع الفرنسي هو مجتمع سياسي، يخضع لمبدأ الأكثرية والأقلية السياسية، وليس لمبدأ الأكثرية والأقلية الدينية والمذهبية.
فرنسا بقيادة الرئيس ماكرون لديها عدة تحديات وفرص، وبعيداً عن الشق الفرنسي الداخلي، فإن النظام الدولي المضطرب يعاني مشكلات عدة، خصوصاً مع انخفاض اهتمام الولايات المتحدة ببعض الساحات، وعودة روسيا إلى لعب دور في المتوسط، وكذلك بزوغ نفس إمبراطوري جديد في السياسات التركية، والأزمة الأخيرة بين أنقرة وأثينا، كل ذلك يدفع فرنسا إلى محاولة تحويل هذه التحديات إلى فرص، وحصد مكاسب يمكن ترجمتها سياسياً واقتصادياً ومالياً. تبدو البوابة المتوسطية هي الأكثر ملاءمة للسياسات الفرنسية، ومن ورائها الشركات والمصارف الفرنسية، كما أن امتلاك فرنسا لخبرات تاريخية سابقة في دول المنطقة؛ يفسر فعلياً هذا الاندفاع الفرنسي، في أعلى مستوياته؛ من أجل لعب دور جديد في الساحة اللبنانية، التي يمكن أن تشكل مدخلاً لساحات أخرى، وكدليل على ذلك، فقد شاهدنا كيف انتقل الرئيس ماكرون، بعد زيارته الثانية، إلى بغداد، ولقاء رئيسها ورئيس وزرائها، في محاولة لرفع مستوى العلاقات مع العراق، وتقديم وعود بخصوص تطوير البنى التحتية.
زيارتا الرئيس ماكرون للبنان أسهمتا في إحداث تهدئة للاحتقان بين أطرافه السياسية، ومنحتا بعض الأمل في إنعاش أوضاعه الاقتصادية والمالية؛ لكن بعيداً عن هاتين المسألتين، هناك أسئلة كبرى لا يمكن تجاهلها، وفي مقدمتها سؤال المحافظة على نظام المحاصصة الطائفية، والذي انتفض اللبنانيون عليه، مطالبين بتغييره، وإحداث تحول سياسي نحو دولة لكل مواطنيها، وحياة سياسية لا تقوم على الأحزاب والزعامات الطائفية؛ حيث سمح نظام المحاصصة الطائفية بإنشاء شبكات من المحسوبية، وتغوّل الفساد، وهدر المال العام، وهي أبرز العوامل التي فجرت انتفاضة اللبنانيين، التي طالبت برحيل كل الطبقة السياسية.
ليس لدى فرنسا أية وصفة نوعية لأوضاع لبنان؛ بل رغبة في لعب دور سياسي/ مالي، كجزء من سياساتها الجديدة؛ لحصد نفوذ في منطقة المتوسط، وهي من أجل لعب هذا الدور؛ عليها أن تتفهم مصالح عدد من الأطراف الإقليمية، وقبل ذلك التوافق مع الولايات المتحدة، ومن الواضح أن الرئيس ماكرون يحاول ربح بعض الأوراق في الوقت الذي تنشغل فيه واشنطن بالسباق الرئاسي إلى البيت الأبيض، وبالتالي تأمين موقف قوي لحضورها الجديد، بغض النظر عمن سيكون الرئيس في واشنطن؛ لكن السؤال يبقى هو: هل اللبنانيون على استعداد لاستنساخ التاريخ؟، وهل فعلاً يمكن أن يكرر التاريخ نفسه؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"