الأمم.. إخفاقاتها وانتصاراتها

03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.مصطفى الفقي

الروح المتجددة في هذه الأمة قادرة في كل وقت على أن تستعيد حيويتها وتنفض الغبار عن وجهها وتتجه إلى حياة العصر.

تطل علينا بعد أيام قليلة الذكرى الثالثة والخمسون لهزيمة يونيو/حزيران عام 1967 بآثارها الضخمة وانعكاساتها الكبيرة في حياتنا، ومازلت أتذكر أنا وجيلي أنها كانت أكبر صدمة في حياتنا، فقد عشنا سنوات المد القومي والحلم العربي، وتصورنا في مطلع ستينات القرن الماضي أنه لا توجد قوة قادرة على قهر العرب، فكانت النكسة مزدوجة التأثير من حيث دهشة المفاجأة لحدوثها، فضلاً عن نتائجها السلبية الواسعة على العباد والبلاد، على البشر والحجر، وما زالت تمثل غصة في حلوقنا حتى اليوم، ولكن الذي يتأمل المشهد في ذلك الوقت سوف يدرك أننا سقطنا أسرى عدد من العوامل الحاكمة وهي:

أولًا: إن الجيش المصري لم يدخل حرباً متكافئة فكانت الهزيمة سياسية أكثر منها عسكرية، كما أن الجندي المصري لم يعطَ الفرصة لخوض المعارك وإثبات بسالته وتأكيد تاريخه، فعلى الرغم من أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد نبه إلى احتمال ضربة «إسرائيلية» قبلها بيومين فقط، فإن استعداداتنا كانت لا تزال سياسية وإعلامية ولا يقابلها درجة من الالتزام العسكري والاستعداد القتالي، ومع ذلك أثبت الجيش المصري بعد الهزيمة بأيام قليلة أن معدنه الأصيل لا يزال لامعاً، وأن قدرته على المواجهة صلبة وصامدة، فدخل معارك رأس العش وشدوان، وعبر الفدائيون المصريون القناة إلى الضفة الشرقية، وقاموا بعمليات استشهادية خلف خطوط العدو، كما تمكن ضابط نادر الطراز هو الفريق محمد فوزي من أن يجمع شتات القوات المسلحة، واستطاع بصرامته وجهامته أن يعيد الضبط والربط إلى الجنود والضباط بعد صدمة الهزيمة بأسابيع قليلة، وقد استبسل المقاتل المصري حتى سقط رئيس الأركان الفريق عبد المنعم رياض شهيداً في جبهة القتال على ضفة القناة.

ثانياً: لا نستطيع أن نعفي قادة البلاد من وطأة الهزيمة سياسياً وعسكرياً، فلقد كان عبد الناصر زعيم البلاد سياسياً هو القائد الأعلى للقوات المسلحة عسكرياً، وكان المشير عامر النائب الأول لرئيس الجمهورية سياسياً، هو القائد العام للقوات المسلحة عسكرياً، ونحن هنا لسنا بصدد توزيع الاتهامات، ولكن دعنا نعترف أن مرارة الهزيمة كانت أقوى من الزعامات والصداقات والقيادات. ومازلت أتذكر القاهرة المظلمة في التاسع من يوليو/تموز عام 1967 عندما صدمنا خطاب التنحي، ومن فرط الخوف على المستقبل خرج المصريون يطالبون ببقاء الزعيم، ومواصلة الطريق رفضاً للهزيمة، وطلباً للثأر.

ثالثاً: ظهرت الروح العربية في أفضل ما تكون، فالعاهل السعودي الملك فيصل توجه إلى القمة العربية في الخرطوم وهو يحمل في ملفاته دعماً لتسليح جيوش دول الجوار، ورغبة في طي صفحة الماضي حتى استعاد عبد الناصر روحه المعنوية العالية، وزعامته الطبيعية عندما رأى جماهير الشعب السوداني تصطف في الشوارع تحيّي القائد العربي، وكأنه يحمل أكاليل الغار وتاج النصر على رأسه، وكانت تلك بداية الشعور العربي المشترك بضرورة رفض الهزيمة، ومواجهة العدوان بمنطق أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وأنه لا صوت يعلو على صوت المعركة، وقاتل العرب على جبهة القناة، واستشهد كويتيون وجزائريون ومغاربة إلى جانب المصريين والعراقيين والسوريين والأردنيين، وغيرهم من أبطال حرب الاستنزاف الطويلة، ثم حرب أكتوبر الظافرة، ولن يغيب عن ذاكرتنا مشهد الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين وهو يصل إلى القاهرة حاملاً شيكاً على بياض يقدمه للقيادة المصرية، وفاءً بمدفوعات الأسلحة الروسية، وطلباً لمواصلة القتال، وسعياً لتجديد روح المحارب العربي؛ لذلك فإنني أقول للمصريين والأشقاء العرب على السواء إننا جميعاً شركاء في المحن، وصف واحد أمام التحديات، ولذلك فإنني أرفض اللهجة الشوفينية المتبادلة أحياناً بين بعض الدول العربية، في محاولة للمن والحديث عن دعم الأشقاء، وكأن كل ما حدث كان طريقاً ذا اتجاه واحد. وعلى سبيل المثال فإنه كما دعمت مصر الثورة الجزائرية، فلقد دعم الجزائريون مصر في معركتي الاستنزاف والعبور، وقس على ذلك ما حدث مع باقي الأشقاء.

رابعاً: بزوغ المشروع الديني بعد نكسة يونيو/حزيران عام 1967 وكأنه بديل للمشروع القومي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في خمسينات وستينات القرن الماضي، فظهرت الجماعات الإسلامية أو المتأسلمة لتحصد من نتائج الهزيمة ما يدعم سياستها ويدفع بها بين صفوف الجماهير، وبوفاة الزعيم الراحل عبد الناصر تصور البعض أن مصر الجريحة قد لا تتمكن من الوقوف على قدميها قبل سنوات طويلة، وإذا كان عبد الناصر بطلاً قومياً قد رحل وسقط واقفاً كالأشجار، فإن مجيء الرئيس الراحل السادات، قد جعله يستفيد من صورته في أعين الآخرين كنقطة انطلاق لمفاجأة حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وعبور القوات المسلحة إلى الجبهة الشرقية للقناة، متجاوزة أوسع مانع مائي في الحروب الحديثة، فضلاً عن أكبر ساتر ترابي وهو خط بارليف، ولذلك فإنني أطالب المؤرخين بنظرة إنصاف لزعماء مصر وحكامها، فكل واحد منهم هو ابن ظروفه، بحيث تشكلت رؤيته من البيئة السياسية التي أحاطت به، والمناخ الفكري الذي عاش فيه.

خامساً: ما أشبه الليلة بالبارحة، فالعالم العربي يشهد حالة من التراجع، وتطوقه العداوات من كل اتجاه، وتستهدفه الأطماع من كافة الجوانب، ولا شك أن روح النصر بعد الهزيمة تحتاج إلى استعادة شاملة في هذه المرحلة، نعم.. لقد تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، ولكن يبقى الإنسان هو الإنسان ابن زمانه ومكانه.

هذه خواطر في ذكرى يوم مؤلم في تاريخنا القومي الحديث، لا نقصد من الإشارة إليه إلا التذكرة بأن الروح المتجددة في هذه الأمة قادرة في كل وقت على أن تستعيد حيويتها، وتنفض الغبار عن وجهها، وتتجه إلى حياة العصر بكل توجهات الحداثة ومظاهر الرقي وعوامل النهوض، في زمن يحفل بالتحديات ويزخر بالقفزات الهائلة إلى الأمام!.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"