اتفاق تاريخي لأجل أوروبا

03:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

أخيراً توافق قادة أوروبا على خطة شاملة للسنوات الست المقبلة، وحزم تحفيز متعددة، لتجاوز الأضرار الاقتصادية لجائحة كورونا

خلال العام الماضي، عانت أوروبا أمرين قاسيين؛ أولهما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والثاني جائحة فيروس كورونا المستجد، والتي عطّلت اقتصادات الدول الأوروبية، أسوة بكل مكان نالت منه الجائحة، مع صعوبات كبيرة في توافق القادة الأوروبيين على الجدول المالي للسنوات المقبلة، الممتدة من عام 2012 ولغاية عام 2027؛ حيث ينظر بعض قادة الدول الأوروبية بعدم الرضا إلى بطء بعض الإصلاحات الحكومية لدول أخرى في الاتحاد لأسباب بيروقراطية، أو تعثّر بعض الخطط؛ نتيجة مشكلات بنيوية في تركيبة الحياة السياسية.

أخيراً توافق قادة أوروبا على خطة شاملة للسنوات الست المقبلة، وحزم تحفيز متعددة، لتجاوز الأضرار الاقتصادية لجائحة كورونا، ومساعدة الحكومات والشركات على تخطي واقعها الحالي، وجاءت القيمة الإجمالية للخطة مقدرة ب1824 مليار دولار، وهو رقم كبير جداً، يعكس بشكل خاص رؤية القاطرة الألمانية، ليس فقط للاقتصاد وتحدياته، وإنما للسياسة الدولية وتحدياتها. فخلال الشهرين الماضيين، كانت برلين مُصرّة على إنجاح خطتها، بتعاون وثيق مع باريس، وتنسيق متواصل بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فبعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي، تطمح باريس إلى لعب دور قيادي أقوى من ذي قبل في الاستراتيجيات الأوروبية.

وعلى ضوء المبلغ المخصص من الاتفاق لدعم الحكومات بمنح وقروض مدعومة، والبالغ 750 مليار يورو، يمكن استقراء المخاوف الألمانية والفرنسية تحديداً من تداعي بعض الحكومات الحالية، ليس فقط في شرق أوروبا؛ بل في دول رئيسية مثل إيطاليا وإسبانيا، تعانيان أساساً مشكلات في الحوكمة، وضعف الشفافية، إضافة إلى بطء في إنجاز الإصلاحات، ومن شأن ضخ مبالغ كبيرة في هذين الاقتصادين دفعهما إلى التعافي، من أجل تماسك الاتحاد الأوروبي كحاجة سياسية بالغة الأهمية، في عالم يزداد فيه الاضطراب، وعدم اليقين حول المستقبل.

خلال السنوات الثلاث الماضية، تلقت برلين وباريس انتقادات لاذعة من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد طالت تلك الانتقادات ملفّات أساسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، من مثل العلاقات مع الصين، وحلف الناتو، وعدم التكافؤ الضريبي بين أوروبا والولايات المتحدة، ولم يكتفِ الرئيس الأمريكي بالانتقادات الإعلامية؛ بل غيّر من طبيعة القوانين الضريبية، ما أثّر بشكل مباشر وسلبي في عدد من الصناعات الأوروبية الرئيسية.

كان واضحاً أن أصوات سياسية أوروبية عديدة، خلال الأشهر الماضية، قامت بالتشكيك في مستقبل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع فشل بعض الحكومات في التصدي لفيروس كورونا، والازدياد المطرد لعدد الإصابات والوفيات، وتقاطعت أصوات من اليمين، ويمين الوسط، مع أصوات من اليسار، في نقد الاتحاد الأوروبي، ودعا بعضها إلى استفتاءات داخل بلدانه؛ من أجل التصويت على البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، أو الخروج منه، كما في فرنسا وبلجيكا.

وسط هذا الاضطراب الأوروبي والعالمي، ناضلت برلين على جبهتين، الأولى داخلية، والثانية أوروبية/ عالمية، ففي الداخل كان «حزب البديل من أجل ألمانيا» المعارض، والذي ينتمي إلى أقصى اليمين، قد بدأ يكتسب شعبية كبيرة، وفي أوروبا زاد الخطاب الشعبوي من حضوره وحظوظه السياسية في الوصول إلى الحكم، وفي العالم هناك الصراع الأمريكي الصيني، والذي لا يزال خطه البياني في حالة صعود، ووسط كل هذا فإن برلين تريد المحافظة على الاتحاد الأوروبي قوياً ومتماسكاً.

في مواجهة برلين وباريس، عارضت الدول المسماة ب«المقتصدة» المتمثلة بالنمسا والدنمارك وهولندا والسويد، إقرار ميزانيات كبيرة لدعم الدول الأوروبية ذات الاقتصادات الضعيفة، أو التي تأثرت أكثر من غيرها بجائحة كورونا، انطلاقاً من حسابات وطنية خالصة، مثل امتلاكها لوفر مالي كبير، وأعداد أقل من السكان، مقارنة مع دول أخرى، ولديها أنظمة ضريبية ذات كفاءة عالية، بينما تعاني الدول الأكبر من حيث عدد السكان مشكلات تكاد تكون تاريخية، من ضمنها الفساد الحكومي، في الوقت الذي تجد فيه برلين وباريس أن عدم مساعدة اقتصادات الدول الأكثر تضرراً، من شأنه أن يؤدي إلى حالة تفكك للاتحاد، قد تكون دراماتيكية وكارثية.

الاتفاق المالي التاريخي الذي توصّلت إليه دول الاتحاد الأوروبي، يتجاوز في مدلولاته المسألتين المالية والاقتصادية، فبعد مرور ثلاثة عقود على نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي، لا يزال النظام الدولي فاقداً لتوازنه، ومن شأن ثبات الاتحاد الأوروبي أن يحافظ على مستوى من الاستقرار والقوة وسط الفوضى الدولية العارمة، كما يعزز من فرص الاتحاد ودوله على حساب دول أخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"