تقييد السُّنة لنصوص قرآنية مطلقة

وما ينطق عن الهوى
02:22 صباحا
قراءة 4 دقائق

جاءت السنة مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم، ومن هذا جميع الأحاديث التي ترغب في الصلاة وتحث عليها وعلى الصيام وأداء الزكاة والحج والصدقات، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والإصلاح بين الناس، وعلى الجهاد بالمال واللسان والنفس، وعلى نصرة المظلوم، وغير ذلك، وتحذر وترهب من الوقوع في المحرمات، والتقصير في الواجبات ونحو هذا.
ويذكر الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتاب «مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة»، أنه مما جاء في بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للكتاب الكريم تقييد مطلقه، كما في قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (البقرة: 229) فقد ذكر الطلاق مطلقاً دون أي قيد، غير أن السنة قيدته بقيدين:
الأول منهما: بألا يوقعه الزوج في حيض، أو في طهر مسّ فيه، أو في طهر سبقه طلاق في حيض، ليكون إيقاع الطلاق متمخضاً عن أسباب وجيهة تستوجب الطلاق، لا عن أسباب لا يد للمرأة فيها بدليل حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق بها النساء» أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والقيد الثاني: أن الطلاق يقع من الجاد والهازل، احتراماً لعقد الزوجية المقدس، ولمكانة المرأة في الإسلام، وإن كان الطلاق حقاً للرجل، ولكنه ليس سيفاً مسلطاً على عنق الزوجة، وأن الحياة الزوجية حياة كرامة واحترام، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة»، وحياة تعاون على البر والتقوى.


المحرمات من النساء


ومن تقييد السنة للقرآن الكريم ما جاء في المحرمات من النساء في قوله عز وجل: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة (النساء:23) فقد قيدت السنة الرضاع:
من حيث عدد الرضعات، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحرم المصة والمصتان)، وقال رسول الله لسهلة بنت سهيل: (أرضعيه خمس رضعات). وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن).
ومن حيث سن الرضاعة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإنما الرضاعة من المجاعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)، أي إن الرضاع المحرم لا يكون إلا في الصغر حيث يغتذي الصغير باللبن، فيشد عظمه، وينبت لحمه بما يرضع، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام).
ومن حيث حدود تحريم الرضاعة في أقرباء المرضعة، ومن رضع منها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب). وقال: (نعم، إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة). وعن السيدة عائشة رضي الله عنها أن عمها من الرضاعة أفلح «أخو أبي القعيس والدها من الرضاعة» جاء يستأذن عليها، فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا القعيس لم يرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليّ فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك، قالت: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائذني له) متفق عليه، واللفظ لمسلم وفي رواية: (إنه عمك الأول).


تشريعات مستقلة


ويقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة النبوية (مكانتها حفظها وتدوينها، تفنيد بعض الشبهات حولها)»: إن السنة النبوية المطهرة جاءت مستقلة ببعض أنواع التشريع منها: وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها خلال عدة الوفاة وهو زائد على ما في القران الكريم من العدة الواجبة بنص قول الله عز وجل: «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير» (البقرة: 234). بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلى ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت: نبذة من قسط أو أظفار).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: «وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم» الشورى (52)، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته.
وقال ابن قيم الجوزية: فما كان منها «أي السنة» زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديماً على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة بهن وأنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم تكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله (النساء: 80).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"