بكين وواشنطن.. نحو الهاوية

03:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
إعداد: بنيمين زرزور

دخل النزاع الأمريكي الصيني، مرحلة جديدة من التصعيد المتبادل بعد طرد الدبلوماسيين وإغلاق القنصليات، ما يوحي للمراقبين بأن هناك نذر حرب حقيقية تلوح في الأفق على الرغم من أن العالم أصبح اليوم أكثر حكمة وحصافة. فهل ينتهي التصعيد الحالي إلى صدام مباشر في عام الانتخابات الأمريكية؟
فرض عصر الرقميات مفهوماً جديداً للقوة وبالتالي «للدولة العظمى» سواء من حيث قدرتها على الهيمنة عسكرياً، أو من حيث الإمساك بخيوط الاقتصاد العالمي الذي تحول مكونه الأساسي إلى «بيانات طيارة» يضمن لمن يجيد اصطيادها وتخزينها «أمناً استراتيجياً» غير مرئي.
وسط هذه المتغيرات لم تعد سياسات فرض إملاءات الكبار على الصغار تجدي نفعاً. وفي الحالة الأمريكية يعتبر ذلك هزيمة بحد ذاتها، لأن الولايات المتحدة أنفقت تريليونات الدولارات على إنشاء قوة عاتية وأساطيل وحاملات طائرات وغيرها، هيمنت فيها على العالم وأجبرت الكثير من دوله على الرضوخ تجنباً لغضب واشنطن.
وفي العلاقات مع الصين، يبدو أن الحسابات الأمريكية منذ دفع واشنطن لضم بكين إلى منظمة التجارة العالمية في الحادي عشر من ديسيمبر 2001، انعكست عليها، وباتت الصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، المنافس الأشد لواشنطن.


هجوم على التقنيات الصينية


هذا الواقع المستجد استدعى تحركاً أمريكياً قبل فوات الأوان بدأ على شكل همس في دوائر القرار، ثم تصاعد لتظهر فقاعاته تباعاً وسط استمرار التقدم التقني الصيني. ولعل هذا ما يفسر الهجوم الأمريكي المبكر على شركات التقنية الصينية بدءاً من «هاواوي» رائدة تقنيات الجيل الخامس من شبكات الاتصالات، التي تتهمها واشنطن بأنها خطر على الأمن القومي الأمريكي وتحرض حلفاءها على مقاطعتها، وانتهاء بقراري وقف التعامل مع شركة «تينسينت» و«بيت دانس» قبل عشرة أيام.
وعلى الرغم من نجاح جولة مفاوضات التجارة الأولى بين البلدين على خلفية حرب الرسوم الجمركية التي تصاعدت في ظل إدارة دونالد ترامب، فإن الرهان على جولة ثانية بدأ ضعيفاً وتلاشى تقريباً وسط التصعيد الحالي الذي انتقل من التجارة والتقنية إلى التلويح بالتهديدات العسكرية؛ حيث سارعت واشنطن لنشر حاملتي طائرات في بحر الصين الجنوبي مطلع يونيو/حزيران الماضي في خطوة لا تزال تهدد بنزع فتيل الحرب.
من جانبها تحرص الصين على التمترس خلف حقها في الدفاع عن مصالحها الوطنية في بحر الصين الجنوبي، وتسعى أيضاً إلى السيطرة على جزر سينكاكو اليابانية، التي تدعي الصين تبعيتها لها، وتستمر في جهودها لضم تايوان التي لم تعترف بها كدولة ومنعتها من دخول الأمم المتحدة.
وقد أجرت تعديلات على وضع جزيرة هونج كونج بعد انتقال السيادة عليها لبكين عام 1997؛ بحيث تصبح جزءاً من الأراضي الصينية، وجاءت الشعرة التي قصمت ظهر البعير في فرض قانون الأمن الوطني على الجزيرة التي تشهد احتجاجات منذ فرضه.


تصعيد غربي


وجدت دول الغرب ومعها كوريا الجنوبية واليابان نفسها مضطرة لردع التغول الصيني، وهي التي تراقب بتوجس استراتيجية بكين على صعيد الهيمنة عالمياً من خلال التغلغل في أوروبا وآسيا عبر مشاريع اقتصادية كما في مشروع الحزام والطريق، ومساعدات مالية كما في حال الدول الإفريقية التي فاقم انتشار كورونا حاجتها إلى المساعدة بغض النظر عن ما يترتب عليها من نتائج سياسية.
وقال وزير الدفاع الياباني، تارو كونو: «إن محاولات الصين تغيير الواقع في بحر الصين الجنوبي سيستدعي رد فعل قوياً من الأسرة الدولية، وأن أي طرف يريد أن يغيّر الواقع بالقوة سيدفع الأطراف الأخرى لأن ترغمَه على دفع الثمن غالياً».
ويعزف الوزير الياباني على نفس الوتر الذي تعزف عليه دول الغرب؛ حيث دعا وزير الدفاع الأمريكي، مارك أسبر، الحلفاء الغربيين إلى الضغط على بكين كي تتخذ موقفاً عقلانياً، وإلا فإنها ستواجه موقفاً غربياً موحداً، من شأنه أن يلحِق بمصالحها أضراراً فادحة.
وقال رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، إن أستراليا تنسق الآن مع اليابان كي تنضما إلى «العائلة الغربية» في مواجهة الصين.
وتصعد بريطانيا لهجتها حيال الصين مستغلة نافذة هونج كونج وتدعو إلى حشد القوى الغربية لردع الصين عن تغيير الوضع القانوني للجزيرة.
وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في وقت سابق من هذا الشهر: إن الولايات المتحدة تريد بناء تحالف عالمي لمواجهة الصين واتهم بكين باستغلال جائحة الفيروس لتعزيز مصالحها.
ويبدو أن دول الغرب ستستخدم كل ما لديها من أسلحة ضد الصين، بما في ذلك عزلها سياسياً واستخدام قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ضدها، سعياً منها إلى زعزعة الاستقرار الداخلي وإضعاف هيمنة الحزب الشيوعي على السلطة.
وقد جددت الصين اتهاماتها للولايات المتحدة بتأجيج حرب باردة جديدة، لأن بعض السياسيين يبحثون عن كبش فداء لتعزيز الدعم قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر.


الصين قوة صاعدة


أما الصين التي تنفذ استراتيجية توسع عالمي توازي قوتها، فعازمة على السيطرة على بحر الصين الجنوبي الذي صار بؤرة ساخنة في الآونة الأخيرة، غير آبهة بالوجود الأمريكي والأوروبي والياباني فيه. وتصر بكين على الاستمرار في تهديد الدول التي تنافسها اقتصادياً بأنها قادرة على إرباك الوضع الدولي عسكريا إن لم تؤخذ مصالحها بنظر الاعتبار. فقد حاصرت سفنها جزر سينكاكو لأكثر من مئة يوم، قبل أن تنسحب مطلع أغسطس/آب الحالي، واقتصر رد اليابان على التريث والمراقبة. ويبدو أن الصين لجأت لاستعراض قوتها العسكرية كي تؤكد استعدادها للمواجهة وإيصال رسالة للدول الغربية مفادها أن أي مواجهة لن تكون في صالحهم. لكن يبدو أن الحرب العرضية غير مرجحة اليوم. هناك الكثير من الظروف التي يمكن أن تجد فيها الولايات المتحدة والصين نفسيهما في أزمة طارئة. وقد يسفر احتكاك طارئ بين القوات الجوية الصينية واليابانية في بحر الصين الشرقي بشكل غير متوقع عن نشوب حرب بدون قرار مسبق. لكن صانعي السياسة في الولايات المتحدة والصين يعرفون أن الحرب ليست تسلية وأنها تحرق أصابيع الجميع.
ولا بد من الإقرار هنا بأن أي مواجهة عسكرية ستترك عواقب وخيمة على السلام العالمي وعلى الوضع الاقتصادي المأزوم أصلاً بسبب جائحة كورونا. لذلك لن ينجر إليها العقلاء، وهم كثر في كلا الطرفين. وأي حادثة مقصودة أو غير مقصودة، يمكن أن تتسبب بإشعال حرب مدمرة، خصوصاً بوجود زعيم مثل كيم جونج أون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"