بيلاروسيا.. صداع جديد لروسيا

03:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
إعداد: بنيمين زرزور

انفجر الشارع أخيراً في وجه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بعد أن بلغت تطورات الأوضاع السياسية والاقتصادية حداً لم يعد معه الاستمرار في الصمت ممكناً، ما ينذر بمصدر صداع جديد لروسيا بعد مهدئات الأزمة مع أوكرانيا.

أشعلت نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في التاسع من أغسطس/ آب الجاري فتيل الاحتجاجات وأسفرت عن فوز لوكاشينكو، حسب الرواية الرسمية، بينما تقول المعارضة إن تجاوزات واسعة منحت الرئيس الذي يقود البلاد منذ عام 1994 الفوز غير الشرعي.

وتفاقمت الاحتجاجات خلال أسبوع واحد، حتى تجاوز عدد المشاركين فيها في العاصمة مينسك يوم 16 أغسطس/ آب 100 ألف، كما اتسعت دائرة المعارضة لتشمل إضرابات العمال في معاقل تعتبر محسوبة على الحكومة، مثل المجمعات الصناعية، وبعض المؤسسات الحكومية.

ويحكم الرئيس لوكاشينكو بيلاروسيا منذ 26 عاماً، وهو أقدم زعيم في أوروبا كلها، حيث وصل إلى السلطة في عام 1994 وسط حالة الفوضى التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991.

لقد حاول لوكاشينكو الحفاظ على هيكل الدولة في ظل النظام الشيوعي. فالجانب الأكبر من قطاع التصنيع ظل تحت سيطرة الدولة، ويدير الدولة جهاز أمن سري قوي، كما أن وسائل الإعلام الحكومية تحتكر مصادر المعلومات وتنطق باسم رموز النظام.

ورغم اكتساب لوكاشينكو شعبية واسعة في بداية الأمر، باعتباره حامي المصالح القومية، إلا أن صورته اهتزت في الأشهر الأخيرة. وقد لاحظ سياسيو المعارضة هذا التغير في المزاج العام، مع تذمر الناس من انتشار الفساد، والفقر، وغياب الفرص، وانخفاض الأجور. وقد زادت أزمة «كورونا» من تفاقم الأوضاع المعيشية، فضلاً عن غياب الدور الحكومي الفاعل في مواجهة الوباء، حيث اقترح لوكاشينكو معالجته بالساونا، والفودكا، والعمل الجاد. وهكذا بدا الرئيس منفصلاً عن الواقع.

وقبيل الانتخابات نسقت المعارضة التي زج لوكاشينكو عدداً من زعمائها في السجن، تحركها، حيث تم ترشيح ثلاث نساء كانت سفتلانا تيخانوفسكايا أبرزهن، وهي زوجة المعارض المعتقل سيرجي تيخانوفسكايا. وتمكنت مدرسة اللغة الإنجليزية البالغة من العمر 37 عاماً، من كسب تأييد أعداد قياسية من الحشود التي تشعر بالإحباط. لكنها لم تحقق نتيجة إيجابية ، وأعلن رسمياً فوز لوكاشينكو الذي وصف المعارضة ب«الجرذان»، بحصوله على 80% من أصوات الناخبين. ثم أجبرت المرشحة، التي حصلت على 10% من أصوات الناخبين حسب الإعلان الرسمي بينما تقول إنها حصلت على 70%، على مغادرة البلاد، وتوجهت إلى ليتوانيا حيث يعيش طفلاها.

وبعد تطور التظاهرات لتشمل كل المدن البيلاروسية حيث أصابت البلاد بشلل كامل، أخذت الأزمة أبعاداً خطيرة حتى صارت تهدد النظام، خاصة بعد دخول قوى خارجية على خط الخلافات.


نقطة اللاعودة


تحدى المتظاهرون كل مشاعر الخوف نتيجة الكشف عن عدد المحتجين الذين تعرضوا للاعتقال خلال الأيام الأخيرة وبشكل مبالغ فيه. كما أن تردد الناس على مراكز الاعتقال للسؤال عن ذويهم، وتناقل الأخبار حول تكديسهم في السجون وسط انتشار «كورونا»، وتعرض الكثير منهم للضرب المبرح، أخرج الأمور عن السيطرة. وشهد يوم 17 أغسطس/ آب ذروة التحرك الشعبي، مضافة إليه استقالات في صفوف ضباط الأمن، ووسائل الإعلام الرسمية، فضلاً عن الإضرابات في المصانع.


استغلال اللحظة الحرجة


كان من الطبيعي في ظل تلك التطورات أن تسارع دول غربية للتدخل، حيث اعتبرت الانتخابات غير نزيهة، ونددت بقمع المتظاهرين. فقد دعت كل من بريطانيا، وفرنسا، وبولندا، والتي أعلنت قبل الانتخابات في بيان مشترك أنها تدين قمع المتظاهرين، إلى إعادة الانتخابات، والسماح لمراقبين مستقلين بالإشراف عليها. وأعلنت كندا والولايات المتحدة مساندتهما لمطالب المحتجين، ولوّح الاتحاد الأوروبي بتشديد العقوبات على بيلاروسيا.

وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية، ستيفن سيبرت، إن ميركل التي تسلمت طلباً من مرشحة المعارضة في ليتوانيا لوضع حد لقمع المتظاهرين، لفتت خلال محادثة هاتفية مع الرئيس بوتين، إلى ضرورة أن توقف السلطات البيلاروسية استخدام القوة ضد المتظاهرين، والإفراج الفوري عن السجناء السياسيين، وبدء حوار مع المعارضة لإيجاد مخرج للأزمة.

وفي تطور لاحق، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دعمه للاحتجاجات المتصاعدة. وقال إنه يجب على الاتحاد الأوروبي مواصلة دعمه الفعال للمشاركين في الأعمال السلمية في مينسك، ومدن بيلاروسيا الأخرى. وقد وصفت ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم الخارجية الروسية كلام الرئيس الفرنسي «بالنفاق».


الموقف الروسي


وسط هذه التطورات الخطيرة كان من الطبيعي أن تسارع موسكو للتحرك، وهي التي اكتوت بنيران الأزمة الأوكرانية، واضطرت لبسط سيطرتها على القرم، ما عرّضها لعقوبات من دول الغرب.

فقد وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحذيراً شديد اللهجة أثناء مكالمة هاتفية مع أنجيلا ميركل، شدد فيه على رفض موسكو أي تدخل خارجي في بيلاروسيا.

وأصدر الكرملين بياناً أكد فيه متابعة روسيا للوضع عن كثب، وحرصها على أن تتم تسوية الأزمة من دون تدخل خارجي.

وأعلنت موسكو بعد اتصال بوتين، مع لوكاشينكو، عن استعدادها للحفاظ على أمن بلاروسيا، حيث ترددت شائعات عن إرسال وحدات من قوات النخبة الروسية إلى الحدود مع بيلاروسيا، مع الإعلان عن الاستعداد للقيام بخطوات أخرى، إذا لزم الأمر.

ورغم هذه التحركات يرى، جوستاف جريسيل، الخبير في شؤون الدفاع لدى مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي، أن روسيا لا تراهن على لوكاشينكو، بل على أن تبقى مينسك تحت مظلتها. وأي تغيير حكومي لن يكون مزعجاً بالنسبة إلى الكرملين طالما لا يسعى لإحداث تغيير في سياسة مينسك نحو الغرب، والاتحاد الأوروبي، أو حلف الناتو.


بيلاروسيا ليست أوكرانيا


قد لا تنطبق التجربة في بيلاروسيا بكل تفاصيلها على ما جرى في أوكرانيا. فسكان بيلاروسيا يميلون للارتباط بروسيا، وعلاقات الشعبين قوية، وثقافاتهم متجانسة. لكن الإشكالية هي الرئيس لوكاشينكو نفسه الذي يعتمد أسلوب «المواربة» في علاقاته مع الغرب، حيث يحتفظ بعلاقات ناعمة مع حلف الناتو. وقد وقف في وجه رغبة روسيا إنشاء قاعدة عسكرية أكبر حجماً في بلاده. واعتقل قبل الانتخابات الأخيرة 32 روسياً، اتهمهم بالعمل على زعزعة الاستقرار في بيلاروسيا.

وتراهن موسكو على تغيير يوصل إلى الحكم فيكتور باباريكو، مرشح المعارضة الذي أمر لوكاشينكو باعتقاله قبيل الانتخابات. وكان باباريكو يرأس شركة تابعة لجازبروم الروسية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"