مجريط.. قصة حضارة إسلامية مزدهرة

حضارة الإعمار
02:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

حملت الحضارة الإسلامية قيماً إنسانية عظيمة، ارتقت بها عن مثيلتها من الحضارات المعاصرة لها، فلم يكن دخول المسلمين للبلدان التي فتحوها للاستيلاء على خيراتها واستعمارها، بل ليكون بداية عهد جديد لنشر الهداية والطمأنينة، فالإسلام، دين وقيم وعلم، يحقق الغايات المثلى للوصول للكمال الخلقي، يقضي على الظلم ويفتح مغاليق الجهل والتأخر، ويدعو إلى ترك الاتباع الأعمى والبعد عن العصبية والقبلية.

هذه القيم السامية سعى إليها المسلمون عندما فتحوا المدن والأمصار، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينهَى أصحابه عن قتل النساء والشيوخ والأطفال، ويمنعهم من إتلاف الزرع وإهلاك المواشي وتخريب البلدان. إن الأصل في الفتح هو الحفاظ على السلم والأمن ونشر دين الله الحنيف، يقول ربعي بن عامر، مبعوث سعد بن أبى وقاص إلى رستم قائد الفرس في موقعة القادسية: «إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم». ولم يكن الفاتح العربي هادماً ولا مدمراً، بل معمر وبناء ومضيف، فعمل على إعادة بناء المدن المفتوحة لتحمل طابعاً حضارياً وإنسانياً، فتنتشر بها معاهد العلوم الدينية والدنيوية، تمهد الطريق للرقي لأهل هذه البلدان، وهو ما يظهر في إعادة تخطيط وإعمار المدن الإسلامية العديدة، في العراق والشام ومصر وإفريقيا والأندلس، وولادة مدن جديدة تخرج من رحم حضارة البناء والتعمير.

مجريط هي مدينة مدريد، هكذا قال عنها ياقوت الحموى في «معجم البلدان» وتأسست على يد الأمير محمد بن عبدالرحمن الأموي الملقب بالأوسط في القرن الثالث الهجري، فهي مدينة إسلامية البناء. وهي اليوم عاصمة الدولة الإسبانية وأحد مراكز العلم والتجارة العالمية. وحسب المؤرخة الإسبانية مارية إيزابيل فإن مدريد عربية في نشأتها وتكوينها، وليست إغريقية الأصل، كما كان يعتقد بعض المؤرخين الغربيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وأشار إلى ذلك المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال سنة 1938 الذي نشر نصاً للمؤرخ والجغرافي الأندلسي الحميري، يشير إلى وصف مدينة مدريد وإلى مؤسسها الأمير القرطبي محمد الأول. كما أثبتت الحفريات والتنقيبات الحديثة التي قام بها علماء الآثار أصلها العربي بما لا يدعو إلى الشك.

وكانت مدريد من أكبر الحاميات والقلاع العسكرية في المنطقة الوسطى، كما أسس المسلمون في هذه المنطقة حاميات فرعية أخرى تابعة إلى مدريد، وظيفتها مراقبة المنطقة الوسطى حتى طليطلة خوفاً من تسلل الأعداء إليها. ومازالت هذه القلاع والأبراج قائمة إلى اليوم، وقامت بلدية مدريد بترميمها وإصلاحها وإعادة ما تهدم منها وأصبحت وجهة للسياح، وكانت مدريد تقع على ربوة مرتفعة محصنة وتتكون من قسمين: الأول القصبة أو ما يسمى المُديْنة وأطلق هذا الاسم فيما بعد على الكنيسة الحالية «عذراء المدينة». وكانت هذه القصبة مسورة ولها عدة أبواب وتضم قصر الحاكم ومسجداً ومرافق عسكرية وإدارية. والثانى المدينة وتقع جنوب شرقي القصبة، ويحيط بها سور ثان أمر ببنائه الخليفة عبدالرحمن الثالث بعدما تعرضت مدريد للحرق والتهديم من قبل ملك النصارى «راميرو الثاني». وتضم هذه المدينة الأرياض أو الأحياء الشعبية الإسلامية، وفيها الأسواق والتجارة وأصحاب المهن والحرف والمدارس والحمامات وغيرها. أما المساكن والبنايات الإدارية والشوارع والأزقة والساحات فقد شيدت على غير نظام بل نمت نمواً طبيعياً فرضه ازدحام المساكن وتوسع المدينة، وكذلك الذوق العام في ذلك الوقت. فنرى أحياناً أزقة تتجه من باب إلى باب ومن معبد إلى آخر ثم تنغلق وعلى المار أن يعود من حيث أتى.

كان هذا الشكل من العمارة منتشراً في العصور الوسطى، وهو صفة تمتاز بها المدن الإسلامية القديمة ومازالت تشاهد في بعض المدن الإسبانية، مثل طليطلة وبعض حارات مدريد القديمة.

تطور معماري

مع أن مدريد لم تتوقف عن التوسع والتطور المعماري فإنه مازال هناك عدد كبير من الأماكن والأبنية والأزقة تحكي تاريخها الإسلامي. ومنطقة المُديْنة لم تحدث فيها تغييرات حتى القرن التاسع عشر، ما عدا المنطقة الشمالية من المدينة والتي حدثت فيها تغييرات مبكرة. ومساكن المدينة وأزقتها وساحاتها تتمركز في القسم الجنوبي منها، وهي محاطة بسور متين مازالت بعض الأجزاء منه ظاهرة ومرممة كما هو الحال في منطقة «كوستا دي لا فيجا». ويمتد هذا الجزء لمسافة 120 متراً. وأطلق على المساحة المقابلة له اسم «ساحة الأمير محمد الأول» مؤسس مدينة مدريد.

عندما أسس المسلمون المدينة أطلقوا عليها اسم «مجريط» وبقى هذا الاسم مستخدماً حتى بداية القرن الثالث عشر ثم ظهرت كلمة مدريد. وفي مطلع القرن العشرين درس الإسباني مانويل جومث مورينو معنى كلمة مجريط، فوجد أنها تتألف من مقطعين هما: «مجرى» و«يط» فالمقطع الأول عربي الأصل والمقطع الثاني وجد أنه لاتيني الأصل ويعني «الكثرة». وبالتالي نفهم أن مجريط تعني المدينة التي تكثر فيها مجاري المياه.

السور العربي

من أشهر معالم مدريد التاريخية والتي مازالت قائمة، بلاثا مايور وتقع هذه الساحة خارج السور العربي القديم، وكانت تسمى في زمن العرب «ساحة الربض» وتباع فيها المنتجات الزراعية والمواشي وأصبحت بعد ذلك في زمن النصارى مركزاً تجارياً، وبعد سلسلة من التطورات والتغيرات أصبحت اليوم لها 11 مخرجاً منها 7 أقواس وفيها نفق لمواقف السيارات كما يبرز في وسطها تمثال من النحاس للملك فيليب الثالث، وتقام فيها الاحتفالات الوطنية والدينية وتنتشر فيها المقاهي والمحلات التجارية التي تباع فيها التحف الفنية ذات التقاليد المدريدية. أما المتحف الوطني للآثار فيحتوي على مجاميع كبيرة من الآثار الأندلسية معظمها يعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلادي.

ويضم المتحف الحربي صالة على طراز قاعات قصر الحمراء، وفتحها الملك الفونسو الثالث عشر سنة 1912، وتحتوي على بعض الآثار الإسلامية الأندلسية. وشيد متحف البرادو سنة 1785 ويعتبر من المتاحف الكبيرة في العالم، أما البلاط الملكي فهو في الأصل كان قصراً عربياً عند تأسيس مدريد، وكان قلعة من الخارج وبلاطاً من الداخل وتمت توسعته سنة 1551، وهو اليوم من أجمل المعالم الأثرية المعمارية القديمة في مدريد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"