يكتب بعدسة فنان ويرسم بقلم أديب

03:25 صباحا
قراءة 6 دقائق

 استطلاع: نجاة الفارس

يؤكد عدد من الكتاب والباحثين أن على المؤرخ أن يكون محايداً، وموضوعياً، ومتجرداً من الأهواء، والعواطف، والميول الذاتية، ويتميز باستقلال شخصيته وعدم تسليمه الكامل بكل ما يقرأ.

وأضافوا في استطلاع ل«الخليج» أن السمة الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها الشخص الذي يراد خوض غمار التاريخ هي عدسة الفنان، وقلم الأديب القادر على دمج كل ما يراه، أو يقرأه، أو يسمعه في قالب يناسب ما تمر به الإنسانية من مراحل، وأوضحوا أن من السمات التي يجب أن يتميز بها المؤرخ المصداقية في الكتابة، فلا يخفي بعض الحقائق والوقائع، ويظهر أخرى.

يقول أبوالحسن الجمّال، كاتب ومؤرخ، لابد لمن يتصدى لكتابة التاريخ أن يتسلح بأدواته التي تعينه على البحث والاستقصاء في التاريخ، ولابد لمن يتصدى للبحث التاريخي أن يتقن النقد التاريخي، وأن يعرف قواعد المنهج التاريخي، وإلا ضاع عمله عبثاً.

كما يتصف المؤرخ باتساع الأفق العقلي وتفتح البصيرة، والتجرد من الخرافات والأساطير التي تنتج أفكاراً خاطئة، وأنماطاً غير سليمة من التفكير، كما أنه لابد أن يتسم بتقبل النقد، والاستعداد لتغيير أو تعديل الفكرة، أو الرأي، إذا ثبت خطأه في ضوء ما يستجد من حقائق وأدلة مقنعة وصحيحة، وأن الحقائق التي توصل إليها في البحث ليست مطلقة، أو نهائية، ويكون هدفه الأساسي إظهار الوقائع والحقائق بغرض الوصول إلى جوهر الحقيقة وحدها، وأن يكون موسوعياً في مختلف المجالات بصفة عامة، وفي مجال اختصاصه بصفة خاصة، كما يملك القدرة على التعبير الجيد والقدرة على استنتاج معلومات صحيحة من مصادر مشوشة، وعليه ألا يتأثر في كتاباته بالمؤثرات الحزبية والسياسية، أو بما يعتنق من نظريات وقيم جمالية وأخلاقية، وسياسية، أو بالظروف الاجتماعية بقدر المستطاع.

ولابد له أن يكون مطلعاً على العلوم التي تخدم مجال التاريخ مثل: اللغات التي تعينه على قراءة الوثائق القديمة التي تجلو له أحداثاً ربما تكون غير مذكورة في لغته الأم، ولعليه ألا يسلّم بكل ما جاء فيها إلا بعد دراستها ونقدها ومقارنتها، كما ينبغي أن يلم بعلم فقه اللغة، فلا بد أولاً من معرفة اللغة الأصلية الخاصة بالموضوع التاريخي المراد بحثه، والكتابة عنه، وكلما تعددت مهاراته اللغوية كلما اتسع له أفق البحث والاستقصاء، كما ينبغي للمؤرخ أن يكون ملماً بعلم قراءة الخطوط؛ وهو من العلوم الأساسية في دراسة التاريخ، وعلم النقود والمسكوكات، فالعملة والأنواط بما تحمله من صور الآلهة، وصور الملوك والأمراء، وأسمائهم وذكرى الحوادث التاريخية، وسنوات ضربها؛ تُقدم للباحثين مادة تاريخية قيمة، كما يجب أن يلم بعلوم الجغرافيا، والأدب، والاقتصاد، والسياسة، وغيرها.

شغف

الكاتب عبد الله عبد الرحمن، باحث في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، يقول: إن ولع الإنسان وشغفه بمعرفة خبايا الكنوز إنما هو جزء جوهري من تكوينه،، ومنذ ما قبل الكتابة، حاول البحث في سير الأسلاف، فعملية التأريخ بحد ذاتها هي عملية فطرية تجمع بين معرفة القصة ووصفها بالشكل الأدق، ومن ثم ربط تلك التفاصيل ببعضها بعضاً، واستخلاص الآلية التي تجري من خلالها الأحداث.

ولعل المؤرخ في موقعه المميز المطل على الماضي، والمستشرف للمستقبل عن علم وبصيرة يعد بشكل كبير من تلك الشخصيات التي تجمع في مضمونها بين العلم والأدب في آن، فالمؤرخ المتجرد من الشروط المدرسية لعلم التأريخ هو فنان تشكيلي قادر على النفاذ من الوصف الظاهري لما حدث، إلى رسم صورة تجيب عن تساؤل لماذا حدث؟ ومحاولة استخلاص تلك المعاني والقيم والعبر التي يمكن استخراجها ككنوز البحر التي تشكل ببريقها مصابيح استرشاد لأجيال قادمة من بني الإنسان في معرفة الأنماط السلوكية والدوافع الخفية ومكامن القوة والضعف والقوانين الحاكمة للتفاعل البشري، ومع التسارع المطرد في تطور وسائل البحث التاريخي مدعمة بالمكتشفات الأثرية ووفرة المصادر، فإن مؤرخ اليوم أقدر على أداء ذلك الدور من أي وقت مضى، فشتان بين من لم يملك إلا خبراً ظنياً ومصادر محدودة ومدونات قد كتبت لتخدم هدفاً وقتياً، وبين من يستطيع الوصول إلى كل ما دوّن وكتب في فنه بضغطة زر، ويمكنه الانتقال الى مصدره البشري بأسرع السبل والوسائل.

الإنسانية اليوم أحوج ما تكون إلى المؤرخ الموضوعي المتجرد من دوافع الفخر أو التأصيل للتفوق من أي وقت مضى، حيث إن العالم لا يكترث بسجل الانتصارات، أو الهزائم، أو الأمجاد، بقدر اهتمامه بمعرفة الكيفية والأسس التي تمت عبرها تلك الأحداث، ولعل هذا العصر فرصة ذهبية للمؤرخين للغوص في ثنايا مآثر الجنس البشري، متسائلين عما عاشه عامة الناس من ظروف، وكيف أبدع هذا الإنسان في التكيف مع تقلبات الزمان سياسية كانت، أو طبيعية، أو اقتصادية، فهنا تكمن أحسن القصص، وتستلهم العبر اللامحدودة، وعلى عكس المنهجية العلمية المؤصلة والمقيدة التي تمليها العلوم التجريبية، فإن حاجة المؤرخ إلى استقراء طبيعة حياة الناس من خلال ما يتناقلونه من تراث معنوي متمثل في الروايات الشفهية والأمثال والشعر والأساطير وغير ذلك من ضروب الفولكلور، تعادل حاجته إلى المصادر المدونة، أو الدلائل التاريخية المثبتة، إذ إن تلك المرويات المتناثرة والمخفية في صدور الرجال، وإن شابتها الشوائب الشخصية وقلت قابلية تطبيق الضوابط المنهجية عليها، تمثل بحق ما عاشه الإنسان، وعايشه.

إن السمة الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها الشخص الذي يراد خوض غمار التاريخ هي عدسة الفنان، وقلم الأديب القادر على دمج كل ما يراه، أو يقرأه، أو يسمعه في قالب يناسب ما تمر به الإنسانية من مراحل، مستخرجاً ما يعين الإنسان على إكمال مسيرة ارتقائه على أرضية صلبة من الوعي الشامل المدرك أن الحياة وإن تطورت أشكالها ووسائلها قائمة على سنن ودورات يمكن استيعابها من خلال إدراكنا للتاريخ.

ابتكار

الدكتورة إيناس عيسى محمد، أستاذة جامعية في التاريخ، تقول: إن عملية كتابة التاريخ إبداع وابتكار وتحليل وفهم للأحداث، وليس كل من كتب صفحات طويلة عن وقائع قديمة، أو حديثة، أو معاصرة، أو كتابة سير الأشخاص سمّي مؤرخاً، فالمؤرخ هو الشخص الذي يدرس ويدّون التاريخ معتمداً أسلوب السرد المنهجي المتتابع، والخوض في الأحداث الماضية، وعليه أن يكون ملماً بالأحداث من خلال البحث والتقصي والإطلاع على أمهات الكتب والوثائق، وأن يتميز بالإصرار على إنجاز عمله فلا يتراجع لعدم وضوح الحدث، أو غموضه، ولا يتراجع لمجرد قلة وندرة المصادر التاريخية، وعليه أن يتحلى بالأمانة العلمية، والموضوعية بعيداً عن ميوله واتجاهاته الفكرية، وأهوائه، وآرائه الشخصية. لقد حدد دليل جامعة عين شمس المصرية صفات الشخص الذي يكتب في التاريخ لكي يكون مؤرخاً، بأن يتسم بالحيادية وعدم التحيز، ومن تلك السمات أيضاً المصداقية في كتابة التاريخ فلا يخفي بعض الحقائق والوقائع، ويظهر أخرى، إذ لابد من نقل الحدث التاريخي كما هو إلا إذا اقتضت الضرورة الوطنية، أو الواجب الوطني إخفاءها في بعض الظروف، ولكن لابد من ظهور الحقيقة التاريخية بعد زوال الظرف.

ويتميز المؤرخ كذلك بالقدرة على الاستنتاج، والتفسير، والتحليل، من خلال دراسة الأحداث دراسة مستفيضة وإبداء الرأي في مجريات الأحداث، والإشارة الى المسببات والنتائج، بحيث يكون صاحب فكر متقد، ولماح، ملما ًبكل التفاصيل، وأن تكون لديه القدرة على النقد كي لا يكون مجرد ناقل للأحداث التاريخية، فلا يسلم لكل كلام، ولا يصدق بكل وثيقة، أو مصدر إلا بعد التأكد والتقصي فيلتزم بالأقرب إلى الحقيقة، ويترك ماهو غير ذلك.

الدكتور رابح المغراوي، أستاذ تاريخ جامعي، يقول: مهما بلغت الحقيقة التاريخية من قيمة ذاتية، فإنها تبقى نسبية بالنظر إلى الشروط والمعايير التي تحكمت فيها من البداية إلى النهاية، وبقدر التفاوت في الشروط والمعايير، حسب المؤرخين، تتفاوت الحقائق التاريخية من حيث المصداقية في نهاية المطاف، واستجابة لهذا المطلب لا بد أن تخضع جزئيات الحقيقة التاريخية وهي في طور التشكل للنقد، والفرز، والتصنيف، والغربلة، باستمرار، قبل الانتقال بها نهائياً إلى توليف مكوناتها، وتنسيق مفرداتها، وتركيب عناصرها، إضافة إلى ترتيب مساقها الموضوعي والزمني، ثم تحليل مضمونها النسقي الذي اهتدى إليه المؤرخ، أو المحلل، بعد العمليات المذكورة.

استسهال البحث

يرى الدكتور رابح المغراوي أن المؤرخ الذي يتساهل، ولا يتشدد، في الأخبار، أو «الحقائق»، أو المصادر أو الوثائق، من خلال التقصير في التحقيق والتوثيق الأولي، هو «مؤرخ» مجازاً، لا حقيقة، ومتهافت لا يملك زمام نفسه، وأقل ما قد يوصف به من نعوت كريمة، أنه مستعجل، ربما آثر الأسهل، ولم يمنح نفسه فرصة التحقيق المفضي إلى التوثيق، المُخَلِّصِ للحقيقة الخام، أو الوثيقة، أو الخبر، أو الرواية، مما يعلق بها من الشوائب الدخيلة، الذاتية والموضوعية، والتي هي طبيعية، وكثيرة، إذ كيف يُستساغ، منطقاً ومنهجاً، الانتقال إلى عملية بناء النسق التاريخي من خلال تركيب مفرداته، التي هي الأخبار، وما يستتبع ذلك من استنطاق، واستنتاج، وما إلى ذلك، من دون المرور بفحص مكونات البناء وأجزائه، والتي هي حقيقة البناء وصورته، بل هي مَخْبَرُه وجوهره.

إنه بهذه الصيغة بناء لا أساس له، وكل بناء لا أساس له، أولى له أن يُنقض، لما سيكون له من تبعات وخيمة على التاريخ، وفائدته، وثمرته. إن التعاطي مع حقائق التاريخ بهذه الكيفية السلبية والمقَصِّرَة، لهو في تقديري أشد ضرراً على الفكر التاريخي الفاعل والباعث، المؤثر في صيرورة حركة الأمم سلباً، وإيجاباً، من ضرر التعامل بالعملة الزائفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"