«في عيوننا.. حَوَلٌ»

04:21 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

حدثني صديق قائلاً: اكتشفت، متأخراً، أن جزءاً من تاريخنا المكتوب فيه عَوَج، فحتى الآن، لا أدري على وجه اليقين إن كان عصر هارون الرشيد، عصر مجون وترف أم عصر علم وإيمان، وهل غزوة التتار على بغداد جاءت من الشرق أو من الغرب، أو بفعل «مؤامرة دولية»؟ وهل صحيح أن العرب كانوا يتطيَّرون من العطاس، لكراهيتهم لدابة يُقال لها العاطوس، أم خشية انتشار «الفيروسات» من أنف العاطس، وأن العرب كانوا إذا أرادوا السفر خرجوا من الغَلَسِ، والطير في أوكارها على الشجر فيطيرونها، فإن أخذت يميناً أخذوا يميناً، وإن أخذت يساراً أخذوا يساراً، ولمَّا حيَّرتهم الطيور اختاروا طريق الوسط؟ ومن هنا، حبَّذ أحفادهم في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، الانضمام لمجموعة عدم الانحياز الدولية.

ويضيف صديقي قائلاً: كما اكتشفت أيضاً أن خطبة طارق بن زياد مشكوك فيها، فطارق لم يكن خطيباً، وخطبته الشهيرة «العدو أمامكم والبحر من ورائكم.... الخ»، والتي حفظناها عن ظهر قلب في مطلع شبابنا، هي خطبة موضوعة بعد قرنين من فتح الأندلس، فضلاً عن أن طارقاً كان أشقر الشعر أزرق العينين، لا يعرف البلاغة والفصاحة. وقرأنا أن طارقاً عمل على حرق السفن، لكي يقطع كل أمل لجنوده في العودة إلى إفريقيا، وليدفعهم إلى الاستبسال في القتال، لكننا لم نتساءل: كيف يستطيع طارق حرق سفنه وهو لم يكن يملكها، بل كان قد استعارها من يوليان، صاحب (سبتة وملحقاتها)، أي أن السفن كانت «عُهدة» لدى طارق، فكيف له أن يحرقها؟! وحينما رأى صديقي علامات الدهشة على وجهي، قال: لو حكَّمنا حِسَّنا النقدي، وأعلمنا الفكر والنظر، لما صدقَّنا قصة ابنة يوليان التي قرأنا عنها أنها كانت السبب وراء عبور العرب إلى الأندلس، حينما قام والدها بدعوة موسى بن نصير لغزو الأندلس، وكشف له نقاط ضعفها وهوَّن عليه أمر فتحها.

وتقول القصة: إن يوليان كان قد أرسل ابنته إلى قصر لذريق لتتأدب وتتعلم فيه، أسوة بغيرها من بنات الطبقة العليا من القوط في ذلك الوقت، وأن لذريق طمع بالفتاة حينما رآها ونال منها، فكتبت إلى أبيها بخبرها، فدفعه ذلك إلى التفكير في الانتقام منه، فاتصل بالمسلمين، وزيَّن لهم فتح الأندلس، وحرضهم عليه، ثم جعل نفسه وأتباعه أدلاّء للعرب في تلك البلاد.

وحينما درسنا هذه القصة، لم نتساءل كيف يُرسل يوليان ابنته لتتأدب في قصر ملك معاد له، وأما قصة الاعتداء على ابنته، فحتى لو قبلنا بها، فإنه لم يكن يُنظر لمسألة الاعتداء على الفتاة، من قبل القوط، بمثل ما ننظر إليها كعرب.

وواصل صديقي طرح رؤيته، وقال: رُوي عن ملك هندي في قديم الزمان أنه كان يُجلس وزراءه خلف أباريق كبيرة عند عقد مجلس الوزراء، فما يعود يظهر من فوق حافتها سوى رؤوسهم، لكن الغريب، والأمر العجيب، ليس في تصرف الملك، وإنما في موقف المؤرخ، حينما يعتقد بأن الأباريق هي التي كانت تتداول في شؤون الحكم.

وكانت سيدة في عينيها حَوَلٌ تجلس على مقربة مِنَّا وتستمع لحديث صديقي عن التاريخ والتأريخ، حينما اقتربت منه قائلة: «كيف تسير الأمور الآن في وطننا العربي يا حضرة الفاضل؟ فأجابها على الفور: كما ترين يا سيدتي.

وسألته أن يضرب لها مثلاً عمن يلتمس تقويم ما لا يستقيم، وتصديق من لا يُصِّدق، فقال صاحبي: «قرأت يا سيدتي حكاية عن جماعة من القردة كانت تقطن في كهف في جبل، وفي ليلة باردة ذات ريح ومطر، التمست القردة ناراً فلم تجد، فرأت يراعة تطير كأنها شرارة نار، فحسبتها ناراً، وجمعت حطباً كثيراً، فألقته عليها، وجعلت تنفخ بأفواهها طمعاً في أن توقد ناراً تتدفأ بها من البرد، وكان قريباً منها طائر حكيم، على شجرة ينظر إليها، وقد رأى ما صنعت، فجعل يناديها ويقول: «لا تتعبوا، فإن الذي رأيتموه ليس بنار». ولما طال ذلك عليه، اقترب الطير من جماعة القردة، لينهاها عما هي فيه، لكن بعض القردة قفزت إليه، وضربت به الأرض حتى مات».

ونظر صديقي إلى المرأة قائلاً وبصوت المتوسِّل: «سيدتي، إن العود الذي لا ينحني، لا يصلح أن تعملي منه قوساً». قالت السيدة، وهي تغادر مقعدها، وبصوت مكسور حزين: «يعني.. مفيش فايدة.. غطيني يا صفية».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"