إن استقلال السنة بالتشريع يعني أنها قد جاءت بتشريعات وأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم وأنها حجة في ذلك، أي أن الله سبحانه أوجب علينا اعتقادها والعمل بها، وأن وظيفة السنة لا تقتصر على تأكيد أحكام القرآن وبيانها؛ بل من وظيفتها أيضاً أن تضيف تشريعات أخرى بوحي من الله تعالى، وهي تشريعات ملزمة للمسلمين كإلزام القسمين الأولين، وكإلزام ما جاء به القرآن الكريم نفسه؛ حيث إن الوحي هو مصدر جميع ذلك.
يقول الدكتور الحسين بن محمد شواط في كتاب «حجية السنة وتاريخها»: «إن العلماء أجمعوا على وقوع القسم الثالث من أقسام السنة، وهو أنها تأتي بأحكام لم يثبتها القرآن ولم ينفها، وأن ذلك كثير في السنة، وأنه حجة شرعية ملزمة ثم اختلفوا بعد ذلك في طريقة ثبوت هذا القسم: هل هو عن طريق استقلال السنة بالتشريع أم عن طريق دخولها تحت نصوص القرآن ولو بتأويل؟
فذهب جماهير علماء الأمة قديماً وحديثاً إلى أن ذلك عن طريق استقلال السنة بالتشريع، وأن الله تعالى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بمعتقدات وأحكام جديدة مضافة إلى ما أوحى إليه في القرآن، وهذا هو الصواب لتضافر الأدلة عليه ولشهادة الواقع، ولأن السنة وحي كالقرآن، فلا مانع من التعبد بها على سبيل الاستقلال».
وذهب الشاطبي وقلة معه في كتاب «الموافقات» إلى أن هذا القسم من الأحكام التي أضافتها السنة داخل تحت عموم القرآن وراجع إليه، وهذا مرجوح للأدلة البينة على قول الجمهور.
خلاف لفظي
وعند التأمل نجد أن الخلاف لفظي بين الفريقين ما دام الجميع معترفين بوجود أحكام في السنة لم ينص عليها القرآن، وأن الله قد ألزمنا بها.
وعن أدلة استقلال السنة بالتشريع، يقول الإمام الشافعي في كتاب «الرسالة»: «لقد دل القرآن الكريم ودلت السنة وإجماع السلف على أن السنة وحي من عند الله، ولله تعالى أن يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكامه للناس من أي طريق، سواء كان ذلك بالكتاب أو السنة، وذلك جائز شرعاً وعقلاً وواقع فعلاً.
إن نصوص القرآن الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته مطلقة، ولم تفرق في إيجاب الطاعة بين السنة المؤكدة أو المبينة أو المستقلة بالتشريع، ولهذا فإن التفريق بين ذلك في الطاعة مخالف للنص وتحكم بالجهالة».
إن نصوص القرآن قد دلت على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستقلال، مثل قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر».
وقال الإمام ابن القيم في تفسير هذه الآية: (فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به من الكتاب؛ بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً؛ بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع ولا طاعة).
عصمة النبي
وقال التابعي ميمون بن مهران: (إن الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد موته). وإن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بدلالة المعجزة عن الخطأ في التبليغ عن ربه عز وجل بوحي متلو أو غير متلو، مبين أو مؤكد أو مستقل. وإن القول بعدم استقلال السنة بالتشريع يقتضي القول بعدم تبيينه لما في الكتاب أيضاً لأن في التبيين نوع استقلال في تفاصيل الحكم المبين، كما في تفاصيل أحكام الصلاة والزكاة والحج وغيرها، فيلزم استواء الجميع في الجواز والوقوع.
ويقول الإمام الشافعي: «وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم (أي في القرآن) فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: «وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم».
حق الشفعة
ويؤكد الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة النبوية» (مكانتها، حفظها وتدوينها، تفنيد بعض الشبهات حولها)، على أن في السنة أحكاماً لم ينص عليها القرآن الكريم، وليست بياناً له، ولا تطبيقاً مؤكداً لما فيه، ولا تفريعاً على أصل فيه؛ بل هي أحكام مستقلة زيادة على ما في القرآن الكريم، من هذا: ثبوت الشفعة فيما لم يقسم وفي الجوار: لحديث جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم: ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به)، وثبتت للجار بحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً). وأيضاً جواز الرهن في الحضر.