قنطرة الماضي إلى الحاضر

02:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
** علاء الدين محمود

«في البدء كانت الكلمة»، كثيراً ما تستخدم هذه العبارة في مناسبات مختلفة بدلالات متعددة، وذلك للإشارة إلى أهمية الكلام في التاريخ أو رواية ما حدث، ولكن الحكايات والروايات في مطلع التاريخ البشري كانت شفاهية، يحفظها الناس في صدورهم وينقلونها للأجيال المتعاقبة للاستفادة منها؛ لما تحمله من كلام الحكمة والمعارف، وكثيراً ما تضيع هذه المرويات أو يضاف إليها، وربما يحذف منها، وقد تصبح رواية جديدة مختلفة بفعل الإضافة والحذف، وبالتالي تضيع قيمتها المعرفية؛ لذلك فإن كثيرين قد أرجعوا بداية التاريخ البشري الحقيقي، إلى بداية الكلمة المكتوبة، فهي الأثر الباقي والحامل للحقائق. وبالمقابل أطلقوا على الزمان الذي لم تكن فيه الكتابة معروفة بأي شكل من أشكالها، عصر ما قبل التاريخ، ومن هنا تكتسب الكلمة المكتوبة أهمية كبيرة في معرفة التاريخ البشري.
لقد كانت الكلمة المكتوبة هي الضوء المنير الذي قاد للبحث في الماضي، والتراث البشري وتطور المجتمعات، فعبرها تمكن المؤرخون من النفاذ إلى الماضي فنقلوا إلينا التجارب والخبرات والحكايات والقصص.
المخطوطة هي التاريخ المتنقل في رحلة طويلة من أعماق الماضي، تحمل في أحشائها الأسرار والمعارف القديمة، تخبر عن حياة الأجداد والأسلاف، والحضارات التي سادت والثقافات والمعارف والمكتشفات التي أنجزتها البشرية، هي قنطرة تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذلك تكتسب أهمية كبيرة في البحث العلمي في شتى العلوم، وقد عرفها المختصون بصورة جامعة بأنها «كل وثيقة كتبت بخط اليد على أوراق عادية أو أوراق البردي، وكذلك ما يعرف بالرقوق»، وهي مواد كان العرب يستخدمونها في الكتابة، وقد دُوِّن فيها المصحف، وجميع المؤلفات في العصرين العباسي والأموي. والرقوق هي ما يرق من جلود الحيوانات ليكتب فيه، وهناك وسائل مختلفة في ذلك الشأن، مثل النقوش على المواد الصلبة، أو الكتابة بأدوات حادة مثل الإبرة على أقراص الشمع والجص، وهناك أيضاً الكتابة المسمارية. فالمخطوطة تشمل كل ما استخدم في الكتابة في مسيرة تطورها عبر الأزمان والعصور. وفي المجال الأكاديمي، فإن مصطلح مخطوط، يشير إلى النصوص المقدمة إلى الناشر أو المطابع لإعدادها للنشر، ومن المهم الإشارة إلى أن المخطوطة الصحيحة لكتاب ما، لا تعني بالضرورة الصورة أو النسخة الأصلية فقط؛ بل المنقولة عنها بدقة وأمانة.


علوم عدة


نتج عن الاهتمام بالمخطوطات العديد من العلوم تفرعت عنها اختصاصات متعددة، فهناك علم الكتب المخطوطة أو «الكوديكولوجيا»، وهو المعني بدراسة الكتب والمؤلفات وكل المنجزات المكتوبة، ويسمى كذلك علم آثار الكتاب، الذي يبحث في المواد المستخدمة في صناعة الكتب، وهنالك علم يختص في دراسة محتوى المخطوطة، ويسمى ب«الباليوغرافيا»، وأيضاً يوجد علم «الفيلولوجيا»؛ أي فقه اللغة.
ولعل كثرة التخصصات في المخطوطات يشير إلى تعدد طرق الاهتمام بها من قبيل فكّ رموزها وقراءتها والبحث في محتوياتها، ومقارنتها وإرجاعها إلى أصولها، وهي عمليات بحثية شاقة يُراعى فيها الانضباط والصرامة الأكاديمية.
المخطوطة لا تنقل إلينا قصص الماضي وحكايات فقط؛ بل تجعلنا نتفاعل معها في تواصل وكيمياء غريبة وعجيبة بل ومجنونة، فنحن ننحاز وننقسم إلى معسكرات حول قصة ما، أو شخصية من أبطال الزمان الغابر، مع وضد؛ بل قد تنشأ صراعات جديدة وتكتلات في الموقف من الواقعة أو الشخصية التاريخية. وهذا يشير إلى تأثير الماضي في الحاضر، وهو الأثر الذي يمتد إلى المستقبل، وما كان ذلك ليكون ممكناً، لولا الكلمة المكتوبة المسافرة عبر دهاليز الزمن؛ أي المخطوطة.


فتوحات كبرى


تضعنا المخطوطة أمام اكتشافات عظيمة وفتوحات في مجالات البحث التاريخي، لكونها تحمل علوم ومعارف من سبقونا، وتضعنا مباشرة أمام الحياة الاجتماعية لهم؛ بل تضم مشاهد حية للتاريخ، وبالتالي فإن دور المخطوطة لا ينتهي عند اكتشاف الماضي فقط؛ بل تسهم تسهم بصورة أساسية في صناعة الحاضر والمستقبل، بما تحمله من تجارب قديمة يتم البناء عليها في عملية تأسيس جديد. فعلى سبيل المثال، ما كان من الممكن اكتشاف واختراع الطائرة أو الباخرة أو القطار، لولا الاطلاع على مخطوطات السابقين في هذا المجال، وكذلك كان من الصعب تطور الآداب والفنون في مختلف أنواعها لولا النظر في التراث المكتوب والاستفادة منه، وبالتالي فإن القديم يدخل في صناعة واختراع الجديد عبر تلك الوسائط؛ أي المخطوطات، فلا شيء ينشأ من العدم؛ بل يستند إلى أصل في الماضي، وهذا ما جعل للمخطوطة قيمة علمية كبيرة في مجالات البحث والعلوم؛ لذلك تفحص بصرامة أكاديمية ويتم فكّ رموزها وألغازها بواسطة خبراء ومتخصصين في حقول الآثار والتراث.
وقد تبقى المخطوطة سنين طوالاً إلى أن يتم فك شفراتها من قبل العلماء، فتقدم حينئذ معلومة جديدة، وربما اكتشافات تقود إلى حقائق لم تكن معروفة، وهو الأمر الذي يقود إلى موقف جديد، أو حقيقة جديدة.


إعادة اكتشاف


وتفيض المكتبات في العالم العربي بكثير من المخطوطات تبرز عظمة الحضارتين العربية والإسلامية في المجالات المختلفة من سياسة وثقافة وأدب وعلوم وفلسفة، وكان للمستشرقين الغربيين دور كبير في فحص المخطوطات والوثائق التاريخية وضبطها وتحقيقها، وبالتالي قاموا بإعادة اكتشاف ما ورد فيها من معارف وعلوم ليصبح في خدمة البشرية ككل، وبالتالي نجد أن المخطوطة لا تقدم تاريخ أمة معينة لتستفيد منه هي فقط؛ بل كل البشرية، عبر التعرف إلى أهم ما في هذا التراث من قيم عظيمة. وبالفعل فقد استفاد الغرب كذلك من التراث العربي عبر أعمال المستشرقين الذين تعلموا اللغة العربية، من أجل التعمق في محتويات هذه المخطوطات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"