الإمساك بالأشباح

02:35 صباحا
قراءة 5 دقائق
** القاهرة: «الخليج»، مدحت صفوت

لأنّ العالم غدا قرية صغيرة، أصبح الاحتياج إلى التواصل أكثر إلحاحاً من ذي قبل، وباتت عملية معرفة الآخر ضرورية قدر ضرورة معرفة الذات؛ بل ربما لا تتم العملية الأخيرة؛ أيّ «تحقق الذات» لمعرفتها من دون معرفة الآخر، والترجمة، في جوهرها، توجه نحو الآخر، أياً كان، واعتراف به وبوجوده.
ويرتبط جوهر صورة الذات لدى الآخر، أو صورة الآخر لدينا، بمقدار معلومات كل طرف عن الآخر، فالعلاقة بين دقة الصورة واقترابها من الحقيقة وقدر المعلومات علاقة اطرادية، ومن ثم تصبح الترجمة إحدى سبل المثاقفة، وأهم وسائل التلاقي الحضاري، ومن بينها ترجمة الشعر.
تعاني حركة ترجمة الشعر في أغلب الثقافات، الكثير من العوائق، مما يجعلها حركة عرجاء، وأحياناً «مشلولة» قياساً بحركة ترجمة أشكال أدبية أخرى كالرواية والقصة القصيرة أو مقارنة مع حركة ترجمة الكتب الفكرية والدراسات الإنسانية والفلسفية.
والترجمة في عمومها، وترجمة الشعر على نحو أخص، هي محاولة الإمساك بالشبح والطيف، والأخير غائب مختفٍ، ودمج متناقض من الحضور والغياب معاً، ولا تحيل إلى المعاني والأفكار، وإنما تحيل الترجمة إلى اللغة نفسها. إنّها بعبارة الناقدة الأمريكية باربرا جونسون: «أشبه بالزواج من ضرتين؛ وتفرض كل علاقة حب حباً آخر»، حب النص الأصلي والنص في صورته المترجمة، مع تجنب إقحام نوازع ذاتية للمترجم قد تدفعه إلى الإبهام في موضع الوضوح، أو الإخفاء والإلتواء في موضع الصراحة.
وقبل الخوض في الصعوبات اللغوية والفنية التي تواجه المترجمين في نقل القصائد من لغة إلى أخرى، تجدر الإشارة إلى فكرة العزوف الغربي عن ترجمة الشعر العربي، في إطار الاستعلاء الغربي عن فهم الثقافة العربية في كل جوانبها، والاكتفاء بما يحقق أغراضاً غير ثقافية، وتنتمي إلى المجال السياسي على نحو أدق.


فريقان


الاستعلاء الذي يذكره الناقد والمترجم المصري محمد عناني، في مساهمته عن حالة ترجمة الشعر في التقرير الأول لحالة الشعر العربي الذي صدر عن أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف الصادر العام الماضي، معرجاً على سؤال الناقدة والمترجمة المصرية الراحلة فاطمة موسى للناقد البريطاني من أصول ويلزية
ب. إيفور إيفانز أثناء زيارته للقاهرة في عام 1961 عن إمكانية ترجمة الأدب العربي والشعر خصوصاً إلى الإنجليزية، فجاءها الرد «وما حاجتنا إليه؟».
ومع هذا الاستعلاء، النابع من الاستغناء عن المعرفة ب«ديوان العرب»، ينقسم الباحثون الغربيون المعنيون بالترجمة عموماً من اللغات كافة إلى فريقين بشأن ترجمة الشعر، الأول وهو الفريق الأغلب على توجهات الدراسات الأدبية في الجامعات الغربية، يرفض ترجمة الشعر، وينصرف عنها؛ اعتقاداً في استحالة الترجمة الدقيقة للنصوص الشعرية، أما الفريق الآخر فلا يؤمن باستحالة المهمة وإن أقرّ بصعوبتها.


صعوبات فنية


والحديث عن حركة ترجمة الشعر في العالم؛ يقودنا إلى أن السؤال عن إمكانية ترجمة الشعر بالأساس، لا يزال مطروحاً في دوائر ثقافية مختلفة، وتشير الكاتبة المساهمة في الراديو الأمريكي «NPR» إيما بومان، إلى انشغال الدوائر الأكاديمية بمدى إمكانية ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى من دون فقدان المعنى.
فيما يرى المترجم الأمريكي آرون كولمان، أن صعوبة ترجمة الشعر؛ تكمن في «اللعب» الذي عادة ما يلجأ إليه الشعراء، استناداً إلى التورية اللغوية أو حمل المفردة لأكثر من معنى. ويضرب المترجم - الذي يترجم عن الإسبانية إلى الإنجليزية- مثال كلمة «Tiempo» التي تعني الوقت والطقس معاً في اللغة الإسبانية.
يضيف كولمان إلى أنه في لغة ملايو ثمة كلمات لا معنى لها سوى أنها مجرد أصوات، كما وردت في نصوص «لوريل كاتشاتاج»، مثل muktuk وtuttu، الأمر الذي يبدو جلياً في لغة «الأنوبياك» Inupiaq، شعب الأسكيمو الذي يعيش في ألاسكا الشمالية، ويستخدم الشعراء مفرداتهم وفي الأغلب لا تعني سوى صوتها.
أما المترجمة المتخصصة في اللغات الشرقية بيرنادين راكوما، وعلى موقع «daytranslations»، ترى أن ترجمة القصائد صعبة قياساً إلى ترجمة أشكال إبداعية أخرى؛ بسبب طبيعة اللغة الشعرية الموسومة بالمجاز، والمتحصنة بالاستعارات واللغة التصويرية المختلفة دلالاتها من لغة إلى أخرى.
في الشعر، هذا صوت، وقد يكون مجرد صوت، أو قد يكون اشتغالاً لغوياً لا يُفضي إلى معنى محدد ودقيق يمكن حصره، فالكثير من القصائد، خاصة خلال العقود الأربعة الأخيرة، تُعنى في المقام الأول بالجمالي واللغوي على حساب ما كان يُسمّى بالمضاميني، ويعمل النص على تقديم عناصر تجعله جميلاً وجذاباً أكثر من كونه مفهوماً على المستوى العقلي.
بسبب هذه الكلمات المقفاة مثلاً، أو الأصوات الجذابة؛ يُعجب القرّاء بالنص في لغته، لكن قد لا تكون هناك كلمة مكافئة للغرض الجمالي في اللغة المترجم إليها، وهو ما يبدو واضحاً في ترجمة شعراء السبعينات في مصر من العربية إلى اللغات الأخرى؛ إذ احتوت الترجمة على كلمات وأصوات لا معنى لها، فقط لتبدو متشابهة مع النص في لغته الأصلية.
إن صعوبة ترجمة الشعر، كأحد عوائق تراجع حركة الترجمة، تدفع بالمترجمين إلى الإحجام عن التعامل مع النصوص، خاصة التي تبدو مجرد نوع من الإيقاع والزخرف اللغوي، وحال التصدي لترجمتها تفقد النصوص الجديدة الدقةَ بالمعنى العلمي، وتتراجع نزاهة الإخلاص للنص الأصلي، أو ما يشار إليه ب«خيانة المترجم»، وهي الخيانة التي تتيح له التحايل على أيّ تفاوت لغوي وثقافي بين اللغتين المترجم عنها وإليها.


ضرورة الانتهاك


يصل بنا ما سبق إلى «ضرورة الانتهاك»، فالترجمة الجيدة هي التي لابد أن ترتكب انتهاكاً دوماً، استناداً إلى كونها شكلاً من أشكال التمثيل وعملية تنتج عنها مكاسب وخسائر. وتولي الترجمة الانتهاكية Abusive Translation قيمة كبيرة للتجريب، وتتلاعب بالاستعمال اللغوي، وتسعى لأن تضاهي التكافؤات المتعددة Polyvalence›s أو تعدد لمعاني Plurivocities أو التأكيدات التعبيرية للنّصّ الأصليّ بأنها تنتجها في صورة خاصة بها.


مهمة الترجمة


ويؤكد المفكر الألماني والتر بنيامين في كتاب «مهمة الترجمة» أن الأخيرة تزحزح الأصل عن موقعه، وتجعله يُفصح عن حنينه إلى ما يتمم لغته، ويكمل نقصها وهنا يصبح على المترجم أن يقلقل اللغة والفكرة، أو يقهرهما أو ينتهكها، ويبحث عن غير المفكر فيه، أو غير القابل للتفكير فيه، فيما لا يقال أو لا يمكن قوله، ونتيجة لهذه القلقة ثمة خسارة تحدث في النص، ويعوض النص في صورته المترجمة الخسارةَ الحتمية التي تسببت فيها الترجمة.
بالتأكيد هناك الكثير من الأشياء التي يجب مراعاتها عند ترجمة القصائد، فقد تكون مجرد خطوط أو مقاطع صغيرة؛ لكنها تستغرق وقتاً أطول في الترجمة، وجهداً أكبر، خاصة عندما يعمل المترجم على فهم أفكار الشعراء والخلفية الثقافية للنصوص وكتابها، والسياقات الثقافية المنتمي إليها القرّاء الذي سيطالعون النصوص المترجمة. وهنا، تبدو المهمة عظيمة وثقيلة على كاهل المترجم، وهي ليست بالهيّنة أو اليسيرة، فالدور المنوط به أولاً ليس أقلّ من ضمان استمراريّة اللغة، ومن ثمّ ضمان استمراريّة الحياة بالتبعية.
ومن خلال الانتهاك الذي يمارسه المترجم، توضح الشاعرة الأمريكية الشابة باربرا فالنتينا، أن نصوصها المترجمة لا تعبر عنها ولا عن نصوصها الأصلية، مجيبة على كاتبة الراديو الأمريكي بقولها «لا أستطيع شرح ما تعنيه لغتي الأم، أنا شبح يمسك الأرض».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"