الملائكة (1)

القسم الإلهي
03:42 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.

يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.

قال تعالى في الآيات الخمس الأولى من سورة النازعات:«وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا»، هذه خمسة أمور، وهي صفات الملائكة.

هذه السورة أحد نماذج إشعار القلب البشرى بحقيقة الآخرة، بهولها وضخامتها وجديتها، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها، ثم في الدار الآخرة، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها.

ويذكر ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»:أقسم سبحانه بالملائكة الفاعلة لهذه الأفعال، فإن ذلك من أعظم آياته، والقسم على نفس الأفعال الصادرة من هؤلاء الفاعلين، فلم يتعلق الغرض بذكر المفعول، كقوله في سورة الليل: «فأما من أعطى واتقى»، ونظائره، فكان نفس النزع هو المقصود لا عين المنزوع.

وأكثر المفسرين على أنها الملائكة التي تنزع أرواح بنى آدم من أجسامهم، فأقسم بطوائف الملائكة وأصنافهم: فهم «النازعات» التي تنزع الأرواح من الأجساد، «والناشطات» التي تنشطها، أي تخرجها بسرعة وخفة من قولهم: نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وأنا أنشط بكذا أي:أخف له وأسرع،«والسابحات» التي تسبح في الهواء في طريق ممرها إلى ما أمرت به، كما تسبح الطير في الهواء،«فالسابقات» التي تسبق وتسرع إلى ما أمرت به لا تبطئ عنه ولا تتأخر، «فالمدبرات» أمور العباد التي أمرها ربها بتدبيرها، وهذا أولى الأقوال.

وروى عن ابن عباس أن «النازعات» الملائكة تنزع نفوس الكفار بشدة وعنف، «والناشطات» الملائكة التي تنشط أرواح المؤمنين بيسر وسهولة، واختار الفراء هذا القول، فقال:هي الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها، وتنزع نفس الكافر، قال الواحدي:إنما اختار ذلك، لما بين النشط والنزع من الفرق في الشدة واللين، فالنزع الجذب بشدة، والنشط الجذب برفق ولين«والناشطات» هي النفوس التي تنشط لما أمرت به، والملائكة أحق الخلق بذلك، ونفوس المؤمنين ناشطة لما أمرت به.

وقيل:«السابحات» هي النجوم تسبح في الفلك، كما قال تعالى في سورة يس:«كل في فلك يسبحون»، وقيل: هي السفن تسبح في الماء، وقيل: هي نفوس المؤمنين تسبح بعد المفارقة صاعدة إلى ربها.

والصحيح أنها الملائكة، والسياق يدل عليه، وأما السفن والنجوم فإنما تسمى جارية وجواري كما قال تعالى في سورة الشورى:«ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام»، وفي سورة الحاقة :«حملناكم في الجارية»، وفي سورة التكوير: «الجوار الكنس»، ولم يسمها «سابحات» وإن أطلق عليها فعل السابحة، كقوله في سورة يس «كل في فلك يسبحون» ويدل عليه ذكره «السابقات» بعدها و«المدبرات» بالفاء، وذكره الثلاثة الأول بالواو، لأن السبق والتدبير مسبب عن المذكور قبله، فإنها نزعت ونشطت وسبحت فسبقت إلى ما أمرت به فدبرته، ولو كانت السابحات هى السفن أو النجوم أو النفوس الآدمية لما عطف عليها فعل السبق والتدبير بالفاء، فتأمله.

قال مسروق، ومقاتل، والكلبي :«فالسابقات سبقاً» هي الملائكة، وقال مجاهد وأبوروق: سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح والإيمان والتصديق، وقال مقاتل: تسبق بأرواح المؤمنين، وقال الفراء والزجاج: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء إذا كانت الشياطين تسترق السمع، وهذا القول خطأ، لا يخفى فساده.

وفسرت «فالسابقات سبقا» بالأنفس السابقات إلى طاعة الله ومرضاته. وأما «فالمدبرات أمرا» فأجمعوا على أنها الملائكة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"