فاس.. مدينة الآثار والتجارة

موقعها الاستراتيجي زاد أهميتها
03:30 صباحا
قراءة 4 دقائق

حملت الحضارة الإسلامية قيماً إنسانية عظيمة، ارتقت بها عن مثيلتها من الحضارات المعاصرة لها، فلم يكن دخول المسلمين للبلدان التي فتحوها للاستيلاء على خيراتها واستعمارها، بل ليكون بداية عهد جديد لنشر الهداية والطمأنينة، فالإسلام، دين وقيم وعلم، يحقق الغايات المثلى للوصول للكمال الخلقي، يقضي على الظلم ويفتح مغاليق الجهل والتأخر، ويدعو إلى ترك الاتباع الأعمى والبعد عن العصبية والقبلية.

هذه القيم السامية سعى إليها المسلمون عندما فتحوا المدن والأمصار، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينهَى أصحابه عن قتل النساء والشيوخ والأطفال، ويمنعهم من إتلاف الزرع وإهلاك المواشي وتخريب البلدان. إن الأصل في الفتح هو الحفاظ على السلم والأمن ونشر دين الله الحنيف، يقول ربعي بن عامر، مبعوث سعد بن أبى وقاص إلى رستم قائد الفرس في موقعة القادسية: «إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم». ولم يكن الفاتح العربي هادماً ولا مدمراً، بل معمر وبناء ومضيف، فعمل على إعادة بناء المدن المفتوحة لتحمل طابعاً حضارياً وإنسانياً، فتنتشر بها معاهد العلوم الدينية والدنيوية، تمهد الطريق للرقي لأهل هذه البلدان، وهو ما يظهر في إعادة تخطيط وإعمار المدن الإسلامية العديدة، في العراق والشام ومصر وإفريقيا والأندلس، وولادة مدن جديدة تخرج من رحم حضارة البناء والتعمير.

فاس مدينة مغربية تقع في أقصى الشمال الشرقي من المملكة. وتشغل الطرق السهلة التي تصل بين ساحل المغرب المطل على المحيط الأطلنطي ووسطه، ويعود تاريخها إلى القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، ويذكر حسين مؤنس في «معالم تاريخ المغرب العربي والأندلس»: عندما قام إدريس بن عبدالله مؤسس دولة الأدارسة عام 172ه/ 789 م ببناء مدينة على الضفة اليمنى لنهر فاس، لتكون بدلاً للعاصمة القديمة التي ازدحمت بالسكان. وفد إليها عشرات العائلات العربية من القرويين، ليقيموا أول الأحياء وعرف بعدوة القرويين. كما وفد إليها الأندلسيون الذين أرغموا على الهجرة من الأندلس، ليكونوا عدوة الأندلسيين. والمدينة محاطة بالأسوار، وتخترقها ستة أبواب ولها مسجد جامع. وفي المدينة القديمة المقابلة قام إدريس الثاني كذلك ببناء سور ومسجد، بالإضافة إلى قصر وسوق. وعرفت فاس في هذا العهد انتعاشاً اقتصادياً وعمرانياً منقطع النظير لوجودها في منطقة سهل سايس الخصب، ولتوافر موارد متعددة ومتنوعة ضرورية للبناء بها مثل الخشب والأحجار، بالإضافة إلى وفرة الملح والطين المستعمل في صناعة الخزف.

وكان اختيار المكان موفقاً فهو فسيح تحيط به الأشجار والحشائش، بالإضافة إلى أنه موقع استراتيجي مهم باعتباره ملتقى للطرق التجارية بين الشرق والغرب، خاصة تلك التي كانت تربط سجلماسة بشمال المغرب. كما شكلت الكتلة السكانية للمدينة خليطاً من أمازيغ الأطلس المتوسط والقيروانيين والأندلسيين الذين أسهموا في تطورها العمراني والاقتصادي والثقافي. ولكن إدريس بن عبدالله توفي قبل تطويرها، وبعد ذلك بعشرين عاماً أسس ابنه إدريس بن إدريس المدينة الثانية على الضفة اليسرى من النهر، وظلت هكذا إلى أن دخلها المرابطون فأمر يوسف بن تاشفين بتوحيد المدينتين وجعلهما واحدة، فصارت القاعدة الحربية الرئيسية في شمال المغرب.

فنادق ومطاحن

في سنة 857 م قامت فاطمة الفهرية بتشييد جامع القرويين بالضفة اليسرى لوادي فاس، الذي تم توسيعه فيما بعد من طرف يوسف بن تاشفين المرابطي (1061-1060م)، بعد استيلائه على المدينة سنة 1069م، كما عمل على توحيد الضفتين داخل سور واحد وأسهم في إنعاش الحياة الاقتصادية ببناء الفنادق والحمامات والمطاحن. وبعد حصار دام تسعة أشهر، استولى الموحدون على المدينة سنة 1143م. وتحت حكم الدولة المرينية، عرفت مدينة فاس عصرها الذهبي إذ قام أبويوسف يعقوب (1286-1258م) ببناء فاس الجديدة في سنة 1276م وحصنها بسور وخصها بمسجد كبير وأحياء سكنية وقصور وحدائق.

وبعد فترة طويلة من التدهور والتراجع بسبب القلاقل التي عرفتها البلاد، احتل السعديون المدينة سنة 1554م. وبالرغم من انتقال عاصمة الحكم إلى مراكش خص السعديون مدينة فاس ببعض المنجزات الضخمة، كتشييدهم لأروقة جامع القرويين وعدد من القصور وترميم أسوار المدينة، وبناء برجين كبيرين في الجهتين الشمالية والجنوبية لمدينة فاس. ونتيجة الاضطرابات التي عرفتها الدولة السعدية انقسمت فاس إلى مدينتين: فاس الجديدة وفاس البالي. وفي سنة 1667م، تمكن العلويون من الاستيلاء عليها. وبصفة عامة عرفت هذه الحاضرة تحت حكم العلويين إنجاز عدة معالم، منها فندق النجارين ومدرسة الشراطين وقصبة الشراردة الواقعة خارج فاس الجديدة وقصر البطحاء.

أشهر المساجد

من أهم الآثار الباقية والتي لاتزال شاهدة على هذه الفترة الزمنية مسجد القرويين، والذي يعد أشهر المساجد بالمغرب، وبني سنة 857م من طرف فاطمة الفهرية، وأضيفت إليه الصومعة من طرف الأمراء الزناتيين سنة 956م. ويعود معظم تصميم المسجد إلى الفترة المرابطية (القرن 12م)، التي شهدت أيضاً بناء القباب الجبسية المنتشرة بالبلاط المحوري لقاعة الصلاة، في حين شهد المسجد عدة إضافات في الفترات الموالية خاصة خزانة الجامع وبيت الوضوء. وكذلك مسجد الأندلسيين الذي بني سنة 859-860م بأمر من مريم أخت فاطمة الفهرية، لكن تصميمه الحالي يعود في مجمله إلى فترة حكم الناصر الموحدي، وعرف إضافة نافورة ماء وخزانة في العهد المريني. وخلال الفترة العلوية قام السلطان المولى إسماعيل بعدة إصلاحات. أما المسجد الكبير بفاس الجديدة فشيد سنة 1276 في عهد أبي يوسف يعقوب. وشهد عدة إصلاحات على عهد أبوفارس المريني سنة 1395م. أما خزانة المسجد فأحدثت من طرف السلطان العلوي المولى راشد سنة 1668م.

وهناك المدرسة البوعنانية والتي أسسها السلطان أبوعنان المريني ما بين 1350-1355، وهي من أشهر مدارس فاس والمغرب، فبالإضافة إلى دورها كمؤسسة لتعليم وإقامة الطلبة، كانت تقام فيها صلاة الجمعة. وهي على هيئة صومعة جميلة البناء والزخرفة إضافة إلى توافر ساعة مائية (مكانة) تقنية تشغيلها مجهولة. أما البرج الشمالي فقد بني هذا الحصن الذي يوجد شمال فاس البالي سنة 1582م من طرف السعديين. ويستمد تصميمه من القلاع البرتغالية التي تعود إلى القرن 16م. وهو يحتضن حالياً متحف الأسلحة. وبنى قصر دار البطحاء السلطان مولاي عبدالعزيز سنة 1897 وتم تحويله سنة 1915 إلى متحف جهوي للفنون والعادات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"