تضليل الوعي

03:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
علاء الدين محمود

«من هو المؤرخ؟»، لا يزال هذا السؤال يطرح بقوة في الأوساط الثقافية والفكرية؛ بل وقد أثار جدلاً كبيراً، نسبة لحساسية هذه المهمة البحثية العلمية، والواقع أن التعريفات التي أطلقت للإحاطة بمهمة المؤرخ، تنطلق من تعريف التاريخ نفسه، فلئن كانت معظم هذه التعريفات تنحصر في كون أن التاريخ هو علم يهدف إلى تقصي ودراسة الماضي بصورة منهجية منذ بدء الحياة، ويهتم بكل الأحداث المهمة في كل العصور السابقة ذات الأثر في تطور البشرية وحاضرها، فإن المؤرخ هو ذلك الشخص الذي يقوم بمهمة إعداد تلك الدراسات وتدوينها وفق سرد منهجي علمي.

منذ بدايات القرن التاسع عشر، أصبحت دراسة التاريخ مهنة يقوم بها شخص مؤهل، فهو لا يدون أحداث الماضي وعلاقتها بالبشرية فقط؛ بل يعمل كذلك على تحليلها، وهنالك العديد من المدارس والمناهج المتعلقة بعملية التحليل والتفكيك تلك؛ حيث صارت هنالك معايير وشروط يجب أن تتوفر في المؤرخ؛ بل صارت هنالك تخصصات في عملية التأريخ نفسها، ويجدر في هذا السياق أن نورد تعريفاً مهماً ل«المؤرخ» ذكره ابن خلدون في مقدمته، وأخذ به الكثير من المؤرخين الغربيين، ف«المؤرخ» عند ابن خلدون هو الذي يراعي روح التاريخ، وينظر إلى باطنه بتدقيق وتحقيق وبحث في أسباب الحوادث وعلّة وجود الكائنات؛ للوقوف على مقدّماتها وأسبابها ونتائجها.

اهتمت مقدمة ابن خلدون كثيراً بوصف «المؤرخ» الكاذب المضلل الذي يسرد وقائع غير حقيقية، وتكمن خطورة هذا الفعل بما يبنى عليه من أفعال وأقوال وسرديات، فهنالك من المؤرخين من ارتبطت مصالحه بتحريف الوقائع مثل الذين عملوا في خدمة الملوك والزعماء، وكالمؤرخين الأيديولوجيين الذين يكتبون الرواية الرسمية للحزب أو الدولة المعينة،، وهنالك العديد من النماذج لمؤرخين قدموا وقائع مضللة لأهداف معينة، مثل ما فعله المستشرقون في تناول الشرق، وهذه قضية كبيرة تناولها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بإحاطة خاصة في كاتبيه «الاستشراق»، و«الثقافة والإمبريالية»؛ حيث أوضح أن الكثير من المستشرقين قد عملوا على إظهار الشرق وحضارته بصورة تدل على النظرة الدونية، وتشير إلى روح الوصاية؛ وذلك في سياق غرض محدد وهو الانتصار للمركزية الغربية، التي تشكلت عبر ادعاءات كبرى.

أهواء

«التاريخ يكتبه المنتصرون»، هذه المقولة سادت كثيراً، وهي تلخص الموقف من وجود تاريخ حقيقي وآخر زائف؛ لذلك فإن أكثر الأشياء التي أثيرت حول صعوبة مهمة المؤرخ، هي مسألة الدافعية والرغبات؛ حيث من الضروري أن يتجرد المؤرخ من الأهواء الذاتية والعواطف، كما أن عملية التحليل والتفكيك والتفسير التي يقوم بها يجب ألا تجعل منه قاضياً، يحاكم الأحداث، فذلك يمثل انتزاعاً للحدث من سياقه التاريخي؛ أي لا يراعي شروط وظروف الماضي الذي وقعت فيه الحادثة، فالمؤرخ الحقيقي هو الذي يتبع منهجاً نقدياً صارماً تجاه نفسه، فلا تتحكم فيه العواطف، والواقع أن هنالك الكثير من المسلمات بنيت على وقائع غير حقيقية قدمها المؤرخ؛ لذلك نشأ مصطلح «الإنكار التاريخي»، وهو مسعى يقوم به مؤرخ من أجل إعادة تفسير أو تشكيك في آراء ظلت مقبولة ردحاً من الزمان، فدور المؤرخ هنا هو الكشف عن تحريف أو تشويه تاريخي؛ حيث إن التاريخ الزائف؛ يقود إلى وعي زائف، وهذه الجملة تفسر ما يفعله المؤرخ المضلل، وهذا ما يجمع عليه الكثير من المفكرين والمشتغلين بالتاريخ والدراسات الاجتماعية والفكرية، فالمفكر الجزائري محمد أركون، ذكر أن المغالطات التاريخية تمثل دائماً نقطة انحراف وتشكل آراءً لا عقلانية تقود نحو تضليل الوعي. والحقيقة أن الكثير من الجماعات والتيارات القومية والعقائدية المتعصبة هي نتاج أكذوبة أو وهم تاريخي ساد وتناقلته الأجيال جيلاً بعد آخر.

خطأ كبير

يخلط كثير من الناس بين المؤرخ والكاتب في التاريخ، فيسود اعتقاد بينهم أن المؤلفات التي كتبها أحد الأدباء تنتمي إلى مادة ومفهوم التاريخ، وهذا خطأ كبير يقع فيه حتى المختصون، فعلى سبيل المثال فإن سلسلة «العبقريات»، التي قام بتأليفها العقاد، تعامل من قبل أكاديميين ونقاد على أساس أنها مواد تاريخية، حتى اضطر العقاد نفسه إلى توضيح الأمر في حديث له عن مؤلفه «عبقرية عمر»، عندما قال: «كتابي هذا ليس بسيرة لعمر، ولا بتاريخ لعصره على نمط الكتابات التي نقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره ودلائل على خصائص عظمته واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة»، فما قام به العقاد ينتمي إلى جنس الكتابة الإبداعية وليست التاريخية، وهذا الأمر ينطبق على الأعمال السردية والروائية والسيرة الذاتية للشخصيات التاريخية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"