اتخذ الصحابة العديد من الطرق والوسائل التي تعينهم على التثبت من صحة الحديث وقبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يستعينون بأكثر من راوٍ للحديث وكانوا يحتاطون بإقامة البينة أو أن يشهد الناس على الراوي أو أن يستحلف، فإذا لم يحصل شيء من هذا رد خبره.
يقول الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي في كتاب «تذكرة الحفاظ»: «كان أبو بكر رضي الله عنه أول من احتاط في قبول الأخبار، وكان قدوة حسنة للمسلمين في المحافظة على السنة والتثبت في قبول الأخبار خشية أن يقع المسلمون في خطأ يودي بهم إلى ما لا تحمد عقباه، فعن يونس «بن يزيد» عن الزهري أن أبا بكر حدث رجلا حديثاً فاستفهمه الرجل إياه، فقال أبو بكر: هو كما حدثتك، أي أرض تقلني إذا أنا قلت ما لم أعلم؟!».
الاستئذان ثلاثاً
وروى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «كنت في مجلس من مجال الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع). فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلاّ أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك) فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وتثبت عثمان رضي الله عنه في الحديث: فعن بسر بن سعيد قال: «أتى عثمان المقاعد، فدعا بوضوء، فتمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ورجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يتوضأ، يا هؤلاء أكذاك؟ قالوا: نعم، لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده».
وتثبت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث: فعنه رضي الله عنه قال: «كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر، أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له)».
التحفظ في دين الله
ويؤكد الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين» على أن تلك آثار تبين منهج الصحابة في التثبت والتأكد من الأخبار، وهذا لا يعني أبداً أن الصحابة اشترطوا لقبول الحديث، أن يرويه راويان فأكثر، أو أن يشهد الناس على الراوي أو أن يستحلف، فإذا لم يحصل شيء من هذا رد خبره!! بل كان الصحابة يتثبتون في قبول الأخبار، ويتبعون الطريقة التي ترتاح إليها ضمائرهم، فأحياناً يطلب عمر سماع آخر، وأحياناً يقبل الخبر من غير ذلك، ولا يقصد من وراء عمله إلا حمل المسلمين على جادة التثبت العلمي والتحفظ في دين الله حتى لا يتقول أحد على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، ويتضح هذا في قول عمر رضي الله عنه عندما رجع أبو موسى الأشعري مع أبي سعيد الخدري وشهد له، قال عمر: (أما إني، لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم). ويظهر ذلك أيضاً من قول الذهبي بعد أن روى قصة أبي موسى: (أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم، ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد».
وكذلك ما قاله بعد إيراد طريقة الصديق في التثبت: (إن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية). وكما طلب الصحابة من الراوي شهادة غيره أيضاً، قبلوا أحاديث كثيرة برواية الآحاد وبنوا عليها أحكامهم.
جهود التابعين
ويشير الخطيب البغدادي في كتابه «الجامعة لأخلاق الراوي وآداب السامع» إلى أن أدب التابعين وأتباعهم لم يكونوا أقل اهتماماً من الصحابة بالاحتياط لقبول الحديث، فكانوا يتثبتون من الراوي بكل وسيلة تطمئن إليها قلوبهم، وإن من يتتبع تاريخ الرواة، وكيفية تحملهم الحديث الشريف ليدرك تماماً جهود التابعين وأتباعهم، تلك الجهود التي بذلوها لنقل السنة إلى خلفهم.
وكان يزيد بن أبي حبيب محدث الديار المصرية يقول: «إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة، فإن عرف فخذه، وإلا فدعه».
ولم تكن للتابعين وأتباعهم شروط خاصة في قبول الرواية، ولم يرو عن أحدهم أنه اشترط لقبول الخبر راويين أو أكثر، بل كانوا يتحملون عن كل من توافرت فيه شروط التحمل والأداء، إلى جانب العدالة التي أجمع عليها المحدثون، فإذا ما سقطت عدالة راوٍ طرحوا أخباره وامتنعوا عن الأخذ عنه.
ومع هذا كانوا يتثبتون في قبول الأخبار بكل وسيلة تطمئن إليها قلوبهم، لأن وصايا الصحابة وكبار التابعين لا تزال قائمة في نفوسهم، تذكرهم أن الحديث دين «فانظروا عمن تأخذون دينكم».
أمانة ثقيلة
وكان التابعون يرون أن الأمانة في الذهب أيسر من الأمانة في الحديث، فنسمع عن سليمان بن موسى أنه لقي طاوساً فقال له: (إن رجلا حدثني بكيت وكيت، فيقول له: إن كان ملياً فخذ منه). وكان ابن عون يقول: «لا يؤخذ هذا العلم إلا ممن شهد له بالطلب». ويسمع شعبة بن الحجاج عبد الله بن دينار يحدث في الولاء وهبته عن عبد الله بن عمر، فيستحلفه: هل سمعه من ابن عمر؟ فيحلف له. ويحدث الحكم عن سعيد بن المسيب في دية اليهودي والنصراني والمجوسي، فيقول له شعبة: أنت سمعته من سعيد بن المسيب؟ فيقول: لو شئت سمعت من ثابت الحداد، قال شعبة: فأتيت ثابتاً الحداد فحدثني عن سعيد بن المسيب عن عمر مثله. فلا يمكننا أن نحكم على شعبة أنه لم يكن يقبل رواية أحد إلا بعد تحليفه، أو الاستيثاق برواية آخر معه. بل كل هذا كان من باب التثبت والاستيثاق والتأكد مما يسمعون، حرصاً منهم على حفظ الحديث النبوي الشريف.