التعويض عن جرائم الأفراد (2-2)

02:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عارف الشيخ

قلنا في المقال السابق، إن نظام العقاب مرّ بمراحل، ففي البداية كانت الجريمة تقع، وعندئذٍ يأخذ المجني عليه حقه بيده من الجاني نفسه، وإلا فمن قبيلته وعشيرته، أو كانت قبيلة الجاني تسلمه إلى قبيلة المجني عليه لأخذ الحق منه بالقصاص أو بالدية التي نعبر عنها بالمقابل المادي.
وفيما بعد، عندما تنوعت الجرائم، تنوعت طرق التعويض عن الجرائم أيضاً، وقامت شركات للتأمين بتحمل الحقوق المترتبة على جناية الجاني واعتداءاته.
وإزاء تفاقم أمور الجرائم والتعويض عنها، نادى الكثير من الفقهاء بأن الدولة أيضاً تتحمل مسألة تعويض الأفراد، لأن الجاني وأهله قد لا يجدون ما يعوضون به ما وقع من أضرار.
وإلزام الدولة بتعويض الأفراد عن جرائم وقعت عليهم، وإن كان مسألة أقرها القانون الوضعي، إلا أن الإسلام قبل ذلك نادى بها، عندما ألزم بيت مال المسلمين بتحمل الديات والأضرار، إذا ثبت إعسار الجاني.
والدولة في عرف القانون كما يقول الدكتور محسن خليل في كتابه «النظم السياسية والقانون الدستوري ج1 ص19»، مصطلح يطلق على جماعة من الأفراد، تقطن على وجه الدوام والاستقرار إقليمياً جغرافياً معيناً، وتخضع في تنظيم شؤونها للسلطة السياسية وتستقل في أساسها عن أشخاص من يمارسها.
ويلاحظ أن مفهوم الدولة في الإسلام يختلف عن مفهوم الدولة في القانون الوضعي، حيث إن الإسلام يقسم الناس إلى دار إسلام ودار حرب فقط، ومن ثم لا معنى للحدود الجغرافية طالما أن الجماعات يربطهم ببعض الكفر أو الإسلام.
على كل، فإن تاريخ التعويض عن الجرائم كما يقول الدكتور رمضان عبدالله الصاوي في كتابه «تعويض المضرور عن جرائم الأفراد من قبل الدولة»، قسم التعويض إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة الانتقام الشخصي، ومرحلة التصالح، ومرحلة التعويض.
والتعويض وهو أرقى ما وصل إليه الإنسان في هذا العصر، أخذ شكل الغرامة، حيث كانت السلع تتبادل، وقد قضى قانون حمورابي بمضاعفة قيمة الشيء المعتدى عليه ثلاثين مرة، وأخذ شكل الدية أيضاً، حيث كانوا يرجعون إلى رئيس القبيلة أو العشيرة، فيحسم الموقف لمصلحة الطرفين وتنتهي المشكلة.
ويلاحظ أن قانون حمورابي سبق القانون الوضعي المعاصر بالقول إن الدولة تتحمل التعويض، لأن الجريمة وقعت في نطاق ولاية حاكمها، وبهذا نادى في العصر الحديث الفيلسوف الإنجليزي المعروف «جريمي بنتام» إذا ثبت إعسار الجاني أو جهالته بارتكاب جريمته، وقال «بنتام» إن الدولة مسؤولة عن توفير الحماية والأمن لأفراد المجتمع، فإذا عجزت عن الحماية وجب عليها تعويض المتضرر.
ويذكر الدكتور محمد أبو العلاء عقيدة في كتابه «تعويض الدولة للمضرور من الجريمة» أن المؤتمرات الدولية بعد ذلك أوصت بإنشاء صناديق للتعويضات من الدولة.
ويذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه «حقوق الإنسان» أن الإسلام لم يفرق في تعويض المتضرر بين طبقة وطبقة، ثم ذكر قصة جبلة بن الأيهم أحد أمراء الغساسنة، حيث كان يطوف بالبيت، بعد أن أسلم، وكان نصرانياً، فوطئ ثيابه شاب من فزارة، فلطمه جبلة لطمة جدعت أنفه، فذهب المجني عليه إلى عمر رضي الله عنه، فقضى عمر بالقصاص، أو أن يعفو المجني عليه، فاعترض جبلة وقال: كيف تحكم بهذا وأنا أمير وهو من السوقة؟ قال عمر: الإسلام ساوى بينكما، فلا فضل إلا بالتقوى، فأخذ يسترضي الأعرابي، لكنه لم يرض إلا بلطمه كما لطمه، وعندئذٍ هرب جبلة إلى الروم ورجع إلى نصرانيته، وبذلك رفض مبدأ تكريم الإنسانية الذي نادى به الإسلام.
اللهم أدم علينا نعمة الإسلام التي جعلتنا أعزاء من بعد أن كنا أذلاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"