أنزل الله تعالى القرآن الكريم على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منجماً خلال ثلاثة وعشرين عاماً عن طريق أمين الوحي جبريل عليه السلام، بلسان عربي مبين، المكتوب بين دفتي المصحف، المتعبد بتلاوته، المنقول إلينا بالتواتر، فيه العقائد، ومجمل العبادات، والأصول العامة للأحكام، والقواعد والأسس الثابتة التي تقوم عليها معاملات العباد فيما بينهم من دون التعرض إلى تفصيلها جميعها والتفريع عليها، وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ببيانها في قوله: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (سورة النحل:٦١/٤٤). وفصل الله تعالى في القرآن الكريم الثوابت التي لا تتغير بمرور الزمن، أو تتطور باختلاف الناس في بيئاتهم وأعراقهم، كبيان المحرمات من النساء، وكل ما يتعلق بالمواريث، والقصاص في القتل العمد والدية في القتل الخطأ وغيرها..، هذا إلى جانب أصول مكارم الأخلاق والآداب، وترك للسنة تفصيل ذلك وبيانه، كما تضمن القرآن الكريم قصص الأنبياء والأمم السابقة، ليعتبر أولو الألباب، وبهذا كان القرآن الكريم «وسيبقى» صالحاً لكل زمان ومكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يذكر الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه (السنة النبوية، مكانتها، حفظها وتدوينها، تفنيد بعض الشبهات حولها)، أن السنة الشريفة جاءت في الجملة موافقة للقرآن الكريم، تفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامّه، وتشرح أحكامه وأهدافه ومقاصده، كما جاءت في السنة أحكام لم ينص عليها القرآن الكريم، فكانت السنة في الواقع تطبيقاً عملياً لما جاء به القرآن الكريم، فكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه: عقيدة وعبادة، وأخلاقاً وسلوكاً ومعاملات وآداباً هي الإسلام القائم على كتاب الله العظيم والسنة الشريفة الثابتة، من خلال أقواله وأفعاله وتقريراته، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ما جاء به القرآن الكريم، والصحابة يتلقون ذلك عنه ويعملون به، ويحرصون على اتباعه، وعلى التأسي به، في كل أحوالهم، وما كان يخطر ببال واحد منهم أن يخالفه أو يعرض عما يصدر عنه، عملاً بقول الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (سورة الحشر: ٩٥/٧). وأقبل المسلمون على السنة وانصاعوا لها، كما أقبلوا على القرآن الكريم واستجابوا له وعملوا به بصدق وإخلاص وأمانة. فالقرآن الكريم والسنة الشريفة هما المصدران التشريعيان الرئيسيان في الإسلام، وهما متلازمان، لا يغني أحدهما عن الآخر.
قمة اليقين المعرفي
يقول المفكر الراحل محمد عمارة رحمه الله، في كتابه «حقائق وشبهات حول السنة النبوية»: «لقد كانت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي بلغت دعواه «الرسالة بهذا القرآن المعجز» قمة اليقين المعرفي.. البلاغ لهذا القرآن الكريم: وهي مهمة جاءه الأمر بها في كثير من آيات هذا القرآن، بلفظ «البلاغ» ومشتقاته، وبألفاظ أخرى تحمل المضمون ذاته.. مضمون إبلاغ هذا القرآن الكريم إلى العالمين.. ولقد نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المهمة، فبلغ الرسالة، وأشهد على ذلك الله والناس أجمعين.. «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (المائدة: ٧٦).
والبيان لهذا البلاغ القرآني: وذلك بتفصيل مجمله.. وتفسير إشاراته.. البسط لكلياته.. والتخصيص لعامّه.. والتقييد لمطلقه.. ووضع الضوابط المعينة على التمييز بين محكمه ومتشابهه.. وأيضاً بتوقيت الشعائر والفرائض والمناسك، وبيان مقاديرها وشروطها وأركانها وأنصبتها ومصادرها ومصارفها وهيئاتها.. إلخ.. إلخ.. ثم صياغة المقاصد الشرعية الكلية قوانين تحكم واقع الأمة وعلاقات أبنائها، وتصبغهما بصبغة الله.. إلخ.. إلخ.
صبغة الله
تلك كانت المهمة الثانية من مهام الرسالة: مهمة البيان للبلاغ القرآني.. ولقد أنجزها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان فيها القائم بما فرضه عليه الله: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (النحل:٤٤)، وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (النحل:٤٦).
والتجسيد العملي للرسالة الإلهية عقيدة وشريعة وقيماً وأخلاقاً، بالتجربة النبوية، والتطبيق النبوي لمعالم المنهج الإسلامي، والذي وضع الوحي القرآني في الممارسة والتطبيق، وأحال المنهج الرباني بناء معيشاً في الحياة، تخلقت من حوله إبداعات المسلمين، المصطبغة بصبغته الربانية، في شكل علوم وفنون، وأبنية مدنية، هي تلك التي مثلت حضارة الإسلام.
فالإسلام لم يقف «في الرسالة المحمدية» عند حدود البلاغ القرآني، ولا البيان النبوي النظري لهذا البلاغ القرآني، لأنه لم يكن مجرد مذهب، أو نحلة فكرية، أو وصايا يودعها الرسول أمانة لدى عدد من الحواريين.. وإنما كان «عبر التجربة النبوية» بناء حياتياً معيشاً، في الممارسة والسلوك والدولة والعلاقات، وقد غدا صبغة الله التي صبغت الواقع والأمة والفكر والحضارة.
كيان حيّ
«لقد كان القرآن «البلاغ» الذي جسدته السنة النبوية «بالبيان النظري والتجسيد التطبيقي» كياناً حياً يحيا به المسلمون، ويحيا في هؤلاء المسلمين، ولذلك، فإنه بحكم شمول البلاغ القرآني لشؤون عالمي الغيب والشهادة، وجمعه للمبادئ والكليات والوصايا والتوجيهات والضوابط الهادية والموجهة والمرشدة والحاكمة لكافة مناحي الحياة الإنسانية، ووفائه «باعتباره كتاب الرسالة الخاتمة والخالدة» بالإجابة على علامات الاستفهام الإنسانية: عن البدء، والحكمة والتاريخ، والواقع، والمستقبل، والمنتهى والمصير، وعن المعايير في كل ذلك، بحكم شمول البلاغ القرآني ووفائه «كمصدر المعرفة الإسلامية الأول» لكل هذه العوالم والميادين، كانت السنة النبوية «بحكم كونها البيان العملي في الفكر والتطبيق لهذا البلاغ القرآني» مصدراً للمعرفة اليقينية في كل ميادين ومناحي هذا البلاغ القرآني».