نحو منظومة أخلاق عالمية

03:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

منذ قرار أول مجموعة بشرية أن تعيش وتتعايش معاً، وأن تنظم شؤون حياتها ومصالحها، وتتطور أوضاعها إلى مجتمعات ومدن ودول، صار يمكن اعتبار أن ما وضعته، أو اهتدت إليه من قواعد العلاقات بينها، على أنها سياسة، وبدء تبلور ما اصطلح على تسميته «الفكر السياسي» العالمي، وصولاً إلى تأصيل قواعد الدولة الحديثة، وانبثاق «نظام دولي» تحكمه أطر ومؤسسات ومواثيق وفكر سياسي وأعراف وقوانين دولية.

وما أكثر الدعوات والقرارات التي تحدثت طوال العقود الثلاثة الأخيرة عن الحاجة إلى «نظام دولي جديد»، إلاّ أن الولادة ما زالت متعثرة، أو متعذرة.

وحتى لو كانت هذه الدعوات والجهود جادة ومخلصة لخلق «الجديد»، فإن هذا النظام المنشود لن يُخرج العالم من أزماته من دون وجود منظومة أخلاق عالمية مشتركة ملزمة، ومعايير ثابتة، وسلوكيات أساسية، لا إثرة فيها، ولا أنانية، وقواعد لا تكون مجرد حساب مصالح.

العالم بحاجة ماسة إلى جهد فكري وعملي لمناقشة مشروع عالمي مشترك لأخلاق عالمية، يعزز القيم الإنسانية، ويطور مضمون الأخلاقيات ذاتها، الأخلاق العملية ذات المصادر المتعددة، ويعكس التنوع الإنساني ويجمع أمم العالم على منظومة أخلاق.

عالمية الأخلاق القادرة على مواجهة التحديات التي تواجه البشرية، في ظل تزايد وتكرار الأزمات الاقتصادية والحروب والمجاعات والأوبئة والبؤس والفقر وخراب البيئة وانتشار الفوضى والعنف والكراهية الجماعية..الخ.

اشتغلت «اليونيسكو» كثيراً في مشروع الأخلاق العالمية المشتركة منذ التسعينات، إلاَّ أنها واجهت عقبات عديدة، وتراجع المشروع ليرقد في الأدراج.

ليس سهلاً أن يتم التوافق على منظومة أخلاق مشتركة، في وسط بيئات دولية مسكونة بالحذر، والمصالح المتوحشة، ونفي الآخر، إلا أنه يمكن بناء توافق ملزم على قاعدة وروح المبادئ الإنسانية في المسائل المصيرية للبشرية.

ما الذي يمنع أن تشمل معايير هذه المنظومة أخلاق التعايش والمسالمة والتسامح واحترام حق الحياة، وحفظ كرامة الإنسان، والعناية بكل الأسباب الطبيعية للحياة على كوكب الأرض والالتزام بالحد من الاستهلاك الجامح، والربح الفاحش، وتجريم التضليل والاحتيال والتعصب والاستكبار، وإرساء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة وإنسانية، واعتبار أن السلام العالمي، من حيث هو قيمة إنسانية وأخلاقية عليا، لا يتحقق من باب الوعظ والنصح؟

* ما الذي يمنع، بل هو واجب أخلاقي، أن تشمل القواعد الأخلاقية العالمية المشتركة «أخلاقيات تطبيقية» تنظم مختلف ميادين العلوم والتكنولوجيا وما يرتبط بها من أنشطة اقتصادية واجتماعية وثقافية ومهنية، مثل: أخلاقيات الطب والتجارة والأعمال والمعلومات والإعلام والاتصال وإنتاج المعرفة والتكنولوجيا العسكرية، فضلاً عن أخلاقيات الحرب والسلام، وأخلاقيات مواجهة الأوبئة وما تستدعيه من أزمات اقتصادية كبرى تشلّ حياة البشرية.

الأخلاق هنا، ليست بمعنى «الفضائل»، أي «ما زاد على الحاجة»، وليست كماليات يمكن الاستغناء عنها، إنما وظيفتها ضبط سلوك الدول وأفعالها، ومن خلال فكرة الإلزام، كقاعدة أساسية: الإلزام بواسطة القانون، والإلزام بوازع الرأي العام، والإلزام بوازع الضمير الإنساني، بعيداً عن النفاق السياسي العالمي.

ولا نعني بالأخلاق هنا المفهوم الديني بالمعنى الضيق، أي الحساب والثواب والعقاب، على أهميتها الكبرى، من خير عام، والتسابق في الخيرات وحسن التعامل والرحمة والرأفة والمساواة والعدل وأخلاق العمل..الخ.

في كل دين ومعتقد معتبر هناك عناصر أخلاقية وقيم وقواعد مشتركة، وفي الوقت نفسه، فإن لكل دين ومعتقد مُعتبر، لديه أسسه الخاصة الإيمانية والأخلاقية، والتي تخص أتباعه، لكن أفعال هذه الأخلاق، وما ينتج عنها من سلوكيات ومعاملات، تتعدى في هذا العصر المعولم، الأتباع إلى الآخرين في هذا العالم.

إذاً، هناك مساحة هائلة للأخلاق المشتركة تتجاوز قضايا الموطنة المتكافئة وحرية الاعتقاد والتعايش وثقافة التسامح الديني، ومواجهة التعصب والعنف والإرهاب، إلى آفاق أبعد، تشمل الجميع، المتدين وغير المتدين، وترسم قواعد سلوك دولي، على أسس وجوامع أخلاقية مشتركة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"