ليبيا.. تصعيد تركي وردع مصري

02:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

قرار البرلمان المصري تفويض القوات المسلحة بتنفيذ مهام قتالية خارج الحدود، دفاعاً عن الأمن القومي للبلاد، مفهوم للجميع أن المقصود به هو ردع تركيا، والدفاع عن الأمن القومي المصري والليبي، الذي يشكل كل منهما امتداداً عضوياً للآخر، وتحديداً في مواجهة الغزو التركي لدولة ليبيا الشقيقة والجارة.
معروف أن القرار قد صدر استجابة لدعوات متكررة من السلطات الشرعية الليبية في شرقي البلاد والبرلمان والحكومة، ومن مشايخ القبائل الليبية، ثم بقرار رسمي من البرلمان الشرعي، بدعوة القوات المسلحة المصرية للتدخل العسكري «لحماية الأمن القومي الليبي والمصري، إذا رأت أن هناك خطراً داهماً يهدد أمن البلدين».. (13 يوليو / تموز 2020). وقد سبق القرار الرسمي نداء بنفس المعنى، وذات الألفاظ تقريباً من المجلس الأعلى للقبائل الليبية.
كل هذه القرارات والنداءات منطقية، وهي تعبر عن إدراك الجانبين المصري والليبي للتكامل العضوي للأمن القومي للبلدين، وللخطورة البالغة التي يمثلها الغزو التركي لليبيا، لكن الغريب فعلاً هو رد فعل الرئيس التركي أردوغان عليها، وخاصة على قرار البرلمان المصري، الذي صدر بإجماع النواب، فقد علق أردوغان على القرار بقوله: «إننا نتابع عن كثب بعض المتغيرات التي تحدث هناك، ولن نمنحهم الفرصة، يجب ألا يتحمسوا». وأضاف: «لن نسمح لأي طرف بأن يحقق أطماعه في ليبيا، ولن نتراجع عن تنفيذ خططنا».. (21 يوليو 2020).


إصرار على التصعيد


يتحدث الرئيس التركي وكأنه أصبح مالكاً شرعياً لليبيا، يملك مفاتيح القوة فيها «لن نمنحهم الفرصة»! «لن نسمح لأي طرف بأن يحقق أطماعه»! «لن نتراجع عن تنفيذ خططنا»! ومعروف أن مصر بالذات ليست لديها أطماع في ليبيا، وليس لديها مصالح إلا حماية أمنها القومي من الإرهاب، ومن مخاطر التوسع الإمبراطوري التركي في الشمال الإفريقي، وحماية الأمن القومي لبلد شقيق.
ولسنا بحاجة للحديث عن الأطماع التركية المعلنة في غاز شرق البحر المتوسط، ولا في حقول النفط والغاز الليبية، فضلاً عن الأطماع في الاحتياطيات الدولارية الليبية وعقود المقاولات والإنشاءات.. إلخ، وعن إقامة قاعدة تركية بحرية في مصراتة، وأخرى جوية في «الوطية»، وعن تصريحات المسؤولين الأتراك حول «تحرير» بنية الأراضي الليبية من حكومة (الشرق) الشرعية وجيشها الوطني!! من الذي لديه أطماع في ليبيا أكثر من تركيا؟
يعنينا هنا - بصفة خاصة - الإشارة إلى رفض تركيا وحكومة السراج الموافقة على وقف إطلاق النار، دون انسحاب قوات الجيش الوطني الليبي من خط (سرت - الجفرة)، وهو الأمر الذي يمثل مكسباً استراتيجياً مجانياً، وتحدياً مباشراً لإعلان الرئيس السيسي بخصوص «الخط الأحمر»، بما يعنيه ذلك من إصرار على التصعيد، وسعياً لتحقيق هذا الهدف، تستمر أنقرة في نقل السلاح إلى ميليشيات السراج بنوعيات متطورة وكميات هائلة، وفي حشد القوات الإرهابية باتجاه سرت، وتشير التقارير الإعلامية إلى أن تركيا تدرس نشر طائرات «إف - 16» متعددة المهام في قاعدة «الوطية»، وهو الأمر الذي من شأنه أن يمثل تصعيداً خطيراً للغاية (RT ورويترز 26 يوليو 2020)، كما تستمر في نقل المقاتلين الإرهابيين المرتزقة من سوريا إلى ليبيا، بحيث بلغ عددهم أكثر من 16.5 ألف حتى الآن، وربما كان ضرورياً الإشارة إلى أن بينهم أكثر من 1500 إرهابي تونسي.
وقد أشارت صحيفة «كوميرسانت» الروسية إلى أن الضغوط الروسية قد نجحت في «فرملة» هجوم كانت أنقرة تعده على سرت، بواسطة قوات الميليشيا التابعة للسراج (كويد سانت - 23 يوليو)، وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يفجر الوضع، لأن القوات المصرية لن تتساهل إزاءه، خاصة بعد قرار البرلمان.


رسالة رمزية إلى أردوغان


وقد أشرنا في مقالات سابقة إلى أن القوات التركية الموجودة، حالياً، في ليبيا لا تجرؤ على الاشتباك مع القوات المصرية، كما أن حشد قوات كافية لخوض اشتباك مباشر، أمر يحتاج إلى وقت طويل، ويصعب أن يمر أصلاً، في ظل الغضب الدولي الواسع تجاه الغزو التركي لليبيا، وخاصة في ظل الموقفين الروسي والفرنسي، ولذلك فإن تركيز أنقرة في الوقت الحالي، ينصب على شكل من أشكال «الحرب بالوكالة»، أي نقل مزيد من الإرهابيين من سوريا، وتجنيد مزيد من المرتزقة والإرهابيين من الصومال وغيرها، مع تزايد هذه القوات بأسلحة متقدمة وتدريبها عليها، ومشاركة أعداد من الخبراء والمستشارين الأتراك مع تلك القوات (عددهم حالياً نحو 1500)، كما يمكن أن تجلب تركيا عدداً من الطيارين - الأتراك أو المرتزقة - إذا قررت إرسال طائرات، «إف -16» إلى ليبيا، أما السفن الحربية التركية المنتشرة أمام السواحل الليبية، (خاصة طرابلس ومصراتة)، فالأرجح أن يكون دورها دفاعياً (معنوياً)، وألا تشارك في الهجوم على سرت، حتى لا تواجه البحرية المصرية، وللعلم فقد أجرت مصر وفرنسا تدريباً بحرياً مشتركاً خلال الأيام القليلة الماضية، فيما يمكن اعتباره رسالة رمزية مهمة لأردوغان.
ومن ناحية أخرى، فإن قوات الجيش الوطني الليبي قد حصلت على عدد لا بأس به من الزوارق الحربية، التي تجوب خليج سرت في دوريات للحراسة، وهي يمكن أن تلحق ضرراً كبيراً بالسفن التركية، إذا حاولت الأخيرة مهاجمة سرت أو ميناءي البريقة ورأس لانوف النفطيين الواقعين شرقي سرت.


موقف مصري حازم


وخلاصة القول: إن تركيا تقوم بالتصعيد في ليبيا، وزادت من هذا التصعيد بعد قراري البرلمانيين الشرعي الليبي، ثم المصري، لكن هذا التصعيد ينصب أساساً على دعم قوات السراج عسكرياً بشتى الأشكال في إطار مشروع «الحرب بالوكالة» الذي تحدثنا عنه، خلال الأشهر القليلة المقبلة على الأقل، فلا أحد يمكنه تخمين ما يدور في رأس أردوغان ومساعديه، وكلهم من أنصار سياسة «حافة الهاوية» واللعب بالنار.
ولكن الموقف المصري الحازم المدعوم عربياً ودولياً يظل عنصر ردع بالغ الأهمية لجموح أردوغان.
والأرجح أن تسعى تركيا لاستغلال الحشد العسكري، والمواقف المتصلبة والمراوغة لانتزاع مكاسب أكبر على مائدة التفاوض، من أجل التسوية في ليبيا، وللحفاظ على المكاسب التي حققتها من خلال الغزو، لنفسها ولأتباعها (حكومة السراج وجماعة الإخوان والميليشيات الإرهابية والقبلية)، أي الأطراف التي تدين بالولاء لأنقرة، وفي جميع الأحوال، فإن المستقبل يبدو مفتوحاً على سيناريوهات عديدة، ويظل طريق ليبيا إلى الاستقرار طويلاً ومحفوفاً بالمخاطر.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"