يصنف العلماء المسلمون بخصوص مواقفهم تجاه السنة النبوية المباركة إلى نوعين، الأول: من يحتج بالسنة قولاً، وفعلاً، وتقريراً، في الأحكام والعقائد ولو آحاداً، إذا كانت صحيحة، وهم أهل السلف من المحدثين والفقهاء المعتبرين، كأبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، والليث، والنسائي، والنخعي، وأمثالهم، وذلك لعموم الأدلة الواردة من القرآن والسنة، لأنه من المتفق عليه بين المسلمين أن للدين الإسلامي مصدرين، هما: الكتاب، والسنة، والأدلة الواردة من الآيات القرآنية والسنة النبوية في وجوب تحكيم هذين المصدرين في كل ما شجر كثيرة، ولم يرد عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، والتابعين وتابعيهم، من الأئمة المعتبرين، ما يفيد التفريق بين العقائد والأحكام، بل السنة هي المرجع الثاني، والأخير، في الشرع الإسلامي في كل نواحي الحياة من أمور غيبية اعتقادية، أو أحكام عملية، أو سياسية، أو تربوية، وأنه لا يجوز مخالفتها في شيء من ذلك لرأي، أو اجتهاد، أو قياس.
يقول أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي في كتابه (سبيل الجنة بالتمسك بالقرآن والسنة): «إن الصنف الثاني من المسلمين أمام السنة من يحتج بالسنة قولاً وفعلاً وتقريراً في الأحكام، ولو كانت آحاداً، ولا يحتج بها في العقائد، وهم المتكلمون من المعتزلة، وغيرهم، وكثير من الأصوليين، وكثير من علماء هذا العصر، وشبهتهم أن أحاديث الآحاد تفيد الظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، والعقائد لابد أن تستند إلى أدلة يقينية، إما عقلية، وإما نقلية قطعية»، وتشبثوا بقوله تعالى في المشركين: «إنْ يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس»، وبقوله سبحانه وتعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً»، وفات هؤلاء المستدلين أن الظن المذكور في هذه الآيات ليس المراد به الظن الغالب الذي يفيده الآحاد، والواجب الأخذ به اتفاقاً، وإنما هو الشك الذي هو الحرص، فقد جاء في (النهاية) و(اللسان) وغيرهما من كتب اللغة: «الظن الشك يعرض لك في الشيء فتحققه وتحكم به».
فهذا هو الظن الذي نعاه الله تعالى على المشركين، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى فيهم: «إنْ يتبعون إلا الظن وإنْ هم إلا يخرصون)، فجعل الظن هو الحرص الذي هو مجرد الحزر، والتخمين».
ولو كان الظن المنعي على المشركين في هذه الآيات هو الظن الغالب كما زعم أولئك المستدلون لم يجز الأخذ به في الأحكام أيضاً، وذلك لسببين اثنين: (الأول): أن الله أنكره عليهم إنكاراً مطلقاً، ولم يخصه بالعقيدة دون الأحكام. و(الآخر): أنه تعالى صرح في بعض الآيات أن الظن الذي أنكره على المشركين يشمل القول به في الأحكام أيضاً، فاسمع إلى قوله تعالى الصريح في ذلك: «سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا (فهذه عقيدة) ولا حرمنا من شيء (وهذا حكم)».
فلسفة دخيلة
ويذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتاب (الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام)، أن هناك أحاديث كثيرة وآيات دالة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام، وتدل أيضاً بعمومها وشمولها على وجوب الأخذ به في العقائد أيضاً، والحق أن التفريق بين العقيدة والأحكام في وجوب الأخذ فيها بحديث الآحاد فلسفة دخيلة على الإسلام، لا يعرفها السلف الصالح، ولا الأئمة الأربعة الذين يقلدهم جماهير المسلمين في العصر الحاضر.
وأيضاً من الأدلة على قبول خبر الآحاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أرسل الرسل إلى ملوك العرب، وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام، ومعلوم أن المرسل من الرسول كان رجلاً واحداً، (أو اثنين)، ومعه كتاب، ولم تكن تلك الرسالة بدرجة التواتر، ومع ذلك أسلم من أسلم ورأى أن الحجة قد قامت على من أبى، بواسطة إرسال ذلك الرسول، ويجب عليهم أن يقبلوا خبر رسول الرسول ويسلموا، لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، وملك اليمامة، وابنى الجلندي ملك عمان، وغيرهم.
كما أنه أرسل معاذاً إلى اليمن وقال: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة». (الحديث أخرجه البخاري ومسلم).
تحويل القبلة
إن المسلمين لما أخبرهم العدل الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح، أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره وتركوا الجهة التي كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شكروا على ذلك، وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى. فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد، لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد العلم، وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترنت به قرينة، وكثير منهم يقول: (لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها وهذا في غاية المكابرة).
ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة لحديث الآحاد بالقبول وروايته قرناً بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها، فأي قرينة كانت أقوى منها؟
وقوله تعالى: «ولا تقفُ ما ليس لك به علم»، أي لا تتبعه ولا تعمل به، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم.
تبليغ الرسالة
وقوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته» وقال تعالى: «وما على الرسول إلا البلاغ المبين»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: (أنتم مسؤولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت). ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ ويحصل به العلم، ولو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العباد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله، وأفعاله، وسُننه.