تونس.. هزيمة جديدة لـ«النهضة»

02:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. محمد فراج أبو النور *

جاء رفض البرلمان التونسي بأغلبية ساحقة منح الثقة لحكومة رئيس الوزراء المكلف، الحبيب الجملي (134) صوتاً ضد (72) بمنزلة إعلان مدو عن رفض الأحزاب لسياسة حزب «النهضة» ونزعته للاستئثار بالسلطة، ويضاعف من أهمية هذا التصويت أنه يجيء في خضم أحداث إقليمية خطرة تحيط بتونس، وتشعل جدالاً سياسياً حامياً داخلها.
التطورات في ليبيا والتدخل العسكري التركي فيها، لا شك لعبا دوراً في قرار البرلمان التونسي، ومعروف أن حزب «النهضة» بقيادة راشد الغنوشي، يرتبط بعلاقات وثيقة بحزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا بقيادة أردوغان، وأن الأخير قد قام بزيارة مفاجئة لتونس في 25 ديسمبر (2019) حيث اجتمع برئيسها قيس سعيّد، وجاء فايز السراج - رئيس حكومة «الوفاق» الليبية- لحضور الاجتماع.
وأعلن أردوغان - في مؤتمر صحفي جمعه بسعيّد بعد لقائهما - أن الطرفين ناقشا الأوضاع في ليبيا وضرورة وقف إطلاق النار فيها، وسبل مساهمة تونس في ذلك وفي مساعدة الشعب الليبي.. كما أعلن أنه يقترح دعوة تونس للمشاركة في مؤتمر برلين حول ليبيا.. (قنوات ووكالات ومواقع - 25 ديسمبر 2019).
بينما أشارت وسائل الإعلام التركية وغيرها، إلى أنه قد تم خلال الاجتماع بحث إمكانية أن تكون تونس معبراً للإمدادات العسكرية القادمة من تركيا إلى ليبيا، وللإرهابيين والعسكريين النظاميين الذين ترسلهم أنقرة لدعم حكومة السراج.
ومعروف أن الزيارة نفسها وما دار حولها، قد أثارا غضباً واسعاً في تونس، ما حمل الرئيس قيس سعيّد إلى إصدار بيان أكد فيه أن تونس لن تكون معبراً للسلاح ولا الأفراد إلى ليبيا، وأنها لن تتدخل في الشؤون الداخلية الليبية.

الهيمنة «النهضوية» مرفوضة

ولا شك أن هذه التطورات كلها كان لها تأثيرها في هذا التصويت الساحق ضد الحكومة المقترحة (134) صوتاً ضد (72) بالإضافة طبعاً إلى الغضب الذي أثارته نزعة حزب «النهضة» للهيمنة على الحكومة والسلطة، بما لا يتوافق مع مفهوم الائتلاف، وما يقتضيه من توازن مقبول بين الداخلين فيه.
وجدير بالذكر أن الدستور التونسي ينص على تكليف الحزب الحاصل على أكبر عدد من مقاعد البرلمان بتأليف الحكومة، وقد أسفرت الانتخابات النيابية أكتوبر (2019) عن برلمان متشرذم، تتوزع فيه المقاعد (217) مقعداً بين عدد كبير من الأحزاب.. وحصل حزب «النهضة» على (52) معقداً ازدادت فيما بعد إلى (54) ليكون صاحب أكبر عدد من المقاعد يليه حزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال والإعلام والمرشح الرئاسي السابق نبيل القروي (38) مقعداً.
وبالتالي كان منطقياً أن يتم تكليف «النهضة» بتشكيل الائتلاف الحكومي.. وجرى العرف السياسي والدستوري على أن زعيم الحزب هو الذي ينهض بهذه المهمة.. إلا أن ذلك كان صعباً في حالة الغنوشي - لأسباب لا محل للدخول فيها هنا - وأسفرت المداولات عن ترشيح الغنوشي رئيساً للبرلمان، على أن تقدم «النهضة» مرشحاً مستقلاً، مفهوم طبعاً أنه موال لها.. فرشحت الحبيب الجملي.

الطمع المفرط.. والعقاب

وبهذا يمكن القول إن «النهضة» قد حصلت على منحة سخية بتعيين الغنوشي رئيساً للبرلمان - وهو ما كان يمكن أن يحتل نصيباً مرضياً لأي من شركاء الائتلاف - بالإضافة إلى المرشح «المستقل» لرئاسة الحكومة، المعروف طبعاً بولائه ل«النهضة».. وكان المنطقي، بالتالي، أن تحصل الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي على وزارات مهمة «سيادية وخدمية» لتحقيق التوازن في التشكيلة الحكومية «وبنية السلطة».. لكن الجملي أخذ يناور ويتحدث عن «كفاءات مستقلة» يحتفظ بأسمائها، حتى أعلن عن أسماء وزرائه، وكان تعليق الأحزاب أنهم كلهم «نهضويون» وأنه «لا كفاءات ولا مستقلون» وبالتالي كان العقاب قاسياً بهذا التصويت المهين في البرلمان.

حكومة الرئيس

وبعد فشل حكومة الجملي في نيل ثقة البرلمان فإن الدستور التونسي مادة (89) يقضي بأن يقوم رئيس الجمهورية بمشاورات مع الأحزاب والكتل البرلمانية، وأن يقوم خلال عشرة أيام بتكليف شخصية تتسم بالجدارة والكفاءة والقدرة، بتشكيل حكومة خلال شهر.
وإذا مرت أربعة أشهر على التكليف الأول بتشكيل الحكومة (كان قد تم توجيه التكليف للجملي في 15 نوفمبر 2019)، ولم يمنح النواب الثقة لحكومة جديدة «وهو ما يجب أن يتم خلال 15 مارس 2020» فإن من حق رئيس الجمهورية حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة في مدة أدناها (45) يوماً وأقصاها (90) يوماً.

سيناريوهان

إذن فإن لدينا سيناريوهين ممكنين نظرياً:
* الأول: أن يقوم الرئيس خلال عشرة أيام من التصويت برفض حكومة الجملي بتكليف شخصية جديدة بتشكيل الحكومة، ونجاح هذه الحكومة في نيل ثقة البرلمان.
* والثاني: أن تفشل الحكومة الجديدة في نيل ثقة البرلمان حتى (25) مارس المقبل، فيتم حل البرلمان، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة.
وبالنظر إلى التطورات الخطيرة في ليبيا المجاورة، والتدخل التركي فيها، وما يمكن أن يترتب على ذلك كله من آثار «وامتداد القتال للحدود التونسية، أو الهجرة الواسعة للمدنيين.. إلخ».. وكذلك بالنظر إلى الوجود الإرهابي في المناطق الجبلية التونسية، وما يقوم به من هجمات على المدن من وقت لآخر.. وإلى الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، فإن الحاجة للاستقرار ماسة للغاية، وبالتالي فإن السيناريو الخاص بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة يبدو هو السيناريو الأسوأ من جميع الجوانب.. بينما يبدو السيناريو الأول هو الأفضل بالطبع، والذي يتيح للبلاد استئناف حياتها الطبيعية، والانتقال بسرعة لمواجهة التحديات الضخمة الماثلة أمامها.
لكن تحقيق هذا السيناريو الأفضل يظل مشروطاً بقدرة تلك القوى الحزبية (أو على الأقل بقدرة أغلبية قوية من بينها) على التحلي بروح المسؤولية الوطنية ونبذ الخلافات الصغيرة.. وقد رأينا مثلاً أن الغنوشي قد سارع بالسفر إلى تونس والاجتماع بأردوغان فور إسقاط البرلمان لحكومة الجملي.. وكلاهما «أردوغان» و«الغنوشي» من زعماء التنظيم الدولي ل«الإخوان المسلمين» الذي يصعب أن يسلم بالهزيمة التي واجهها في تونس، بينما لديه معركة كبرى محتدمة في ليبيا.. ومثل هذه التحركات لا تترك مجالاً واسعاً للتفاؤل والاطمئنان.. بل تفرض الترقب والحذر.. حفظ الله تونس.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"