انتخابات شرق أوكرانيا على هدير المدافع

23:45 مساء
قراءة 6 دقائق
د . نورهان الشيخ
في خطوة أثارت مزيداً من الجدل والتوتر بين أطراف الأزمة الأوكرانية، تم يوم الأحد الماضي (2 نوفمبر)، إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا، وسط ظروف أمنية بالغة الصعوبة وتجدد المعارك في بعض المناطق بين قوات الجمهوريتين والقوات الأوكرانية التابعة للعاصمة كييف . ومن المعروف أن كلا من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك قد أعلنت استقلالها من جانب واحد في أعقاب قيام المعارضة بالاستيلاء على السلطة وإزاحة الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير/شباط الماضي، واتخاذ مجموعة من الإجراءات ضد سكان شرق أوكرانيا ذوي الأصول والهوية الروسية، من أهمها حرمانهم من حق استخدام اللغة الروسية كلغة محلية .
اختلفت ردود الفعل والرؤى الداخلية والدولية حول تلك الانتخابات . فمن ناحية أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن روسيا ستعترف بنتائج الانتخابات في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك . واستند الموقف الروسي الداعم لسلطات الجمهوريتين على اعتبارات عدة، أهمها بروتوكول مينسك الذي تم توقيعه في 5 سبتمبر/أيلول الماضي بين ممثلي الشرق الأوكراني وكييف وروسيا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، لتسوية الأزمة في أوكرانيا والذي نص على "تأمين إجراء انتخابات محلية مبكرة طبقاً للقانون الأوكراني حول النظام المؤقت للإدارة الذاتية في مناطق محددة من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك" . والذي بناء عليه اقترح الرئيس الأوكراني على البرلمان مشروع قانون يمنح "وضعاً خاصاً" لمناطق بشرق البلاد لمدة ثلاثة أعوام، وصادق البرلمان الأوكراني في جلسة خاصة يوم 16 سبتمبر/أيلول على هذا القانون الذي ينص أيضاً على إجراء انتخابات محلية استثنائية في هذه المناطق قبل 7 ديسمبر/كانون الأول المقبل .
وترى روسيا أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تم إجراؤها كانت حرة ومعبرة عن إرادة سكان المنطقة، حيث تنافست قائمتا "جمهورية دونيتسك" و"دونباس الحرة" على مقاعد البرلمان المئة في جمهورية دونيتسك . وتنافس على منصب رئيس "دونيتسك الشعبية" ثلاثة مرشحين بينهم رئيس الوزراء الحالي ألكسندر زاخارتشينكو . وفي لوغانسك تنافس أربعة مرشحين، بينهم الرئيس الحالي إيجور بلوتنيتسكي، على رئاسة الجمهورية . وشاركت حركات "الاتحاد الشعبي" و"اتحاد لوغانسك الاقتصادي" و"السلام لأرض لوغانسك" في الانتخابات البرلمانية . وتم فتح مراكز اقتراع في مخيمات اللجوء داخل الأراضي الروسية، التي يقدر عدد اللاجئين فيها بنحو 800 ألف شخص من الجمهوريتين لإتاحة فرصة التصويت والمشاركة للنازحين . وقامت السلطات في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك بتسيير لجان متنقلة للوصول إلى سكان المناطق البعيدة أو القريبة من جبهات القتال، وكذلك لأفراد الدفاع الشعبي المحليين لمنحهم فرصة اختيار مرشحيهم . كما أن الانتخابات كانت تحت إشراف دولي حيث شارك نحو 70 مراقباً من الولايات المتحدة و"إسرائيل" ودول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى لجنة من حزب "رودينا" (الوطن) شارك فيها أيضا برلمانيون في الرادا (البرلمان) الأوكراني في الإشراف على هذه الانتخابات .
أما الاعتبار الأهم الذي تستند إليه روسيا، من وجهة نظرها، فهو ضرورة احترام إرادة شعب دونيتسك ولوغانسك، وحقهم في اختيار مستقبلهم وتقرير مصيرهم، وأن روسيا لا يمكنها التخلي عن الروس الذين يمثلون أغلبية السكان في شرق أوكرانيا .
من ناحية أخرى، جاء الموقف الأمريكي والأوروبي مناقضاً للموقف الروسي وداعماً لسلطات كييف التي أعلنت رفضها وعدم اعترافها بشرعية هذه الانتخابات، ورأت أن اعتراف روسيا بها يقوض اتفاقات مينسك ويؤكد عدم تمسك موسكو بالتزاماتها بشأن إحلال السلام في شرق أوكرانيا، وهاجم الرئيس الأوكراني الانتخابات، واصفاً إياها "بالمهزلة التي دارت تحت تهديد المدافع والدبابات"، ووصف الاتحاد الأوروبي الانتخابات بأنها "عقبة جديدة" في طريق إحلال السلام في أوكرانيا، ولوح بفرض حزمة جديدة من العقوبات ضد روسيا، حال اعترافها بنتائج الانتخابات في الجمهوريتين . كما اقترح رئيس الوزراء الأوكراني أرسيني ياتسينيوك تعليق إمدادات الغاز إلى مناطق الصراع غير الخاضعة لسيطرة كييف في جنوب شرقي البلاد، بحجة عجز السلطات المركزية في كييف عن جبي ثمن الغاز من المستهلكين في المنطقة نتيجة الصراع الدائر . وكانت روسيا وأوكرانيا والمفوضية الأوروبية قد وقعت في بروكسل يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول بروتوكولاً ثلاثياً ملزماً قانونياً، بشأن خطة توريد الغاز الروسي إلى أوكرانيا خلال فصل الشتاء، يتضمن استئناف إمدادات الغاز الروسي إلى أوكرانيا وضمان عدم انقطاع ترانزيت الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا في فصل الشتاء، بشرط أن تقوم أوكرانيا بسداد 1 .3 مليار دولار من ديونها الإجمالية البالغة 3 .5 مليار دولار المستحقة لروسيا قبل نهاية العام الحالي، ودفع ثمن الكميات الجديدة من الغاز مسبقاً قبل توريدها .
وانطلقت كييف وحلفاؤها في موقفها الرافض للانتخابات من كونها تخوض عملية عسكرية ضد معارضيها في المنطقة، الأمر الذي يجعل إجراء الانتخابات أمراً غير ممكن، وأن سلطات الجمهوريتين لا تسيطر على كامل أراضيهما، حيث تسيطر دونيتسك على الثلث الجنوبي الشرقي فقط من الجمهورية، ولوغانسك على الثلث الجنوبي في حين يخضع بقية المناطق لسيطرة كييف، ومن ثم لم تجر فيها الانتخابات، وأنه كان يتعين خضوع الجمهوريتين بالكامل لسلطة كييف قبل إجراء الانتخابات بهما . كما أن الجمهوريتين لم تنسقا مع كييف بشأن إجراء الانتخابات بها، ورفضت قيادتها إجراء الانتخابات البرلمانية الأوكرانية التي تمت يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول في أراضي الجمهورية . وهي الانتخابات التي أسفرت عن تقدم حزبي الرئيس ورئيس الوزراء، بحصولهما على 82 .21% و16 .22% على التوالي، وأعلن رئيس الوزراء الأوكراني أرسيني ياتسينيوك عزمه تشكيل ائتلاف برلماني والبقاء في منصبه، ما يعني استمرار التوجهات الحاكمة لسياسة كييف تجاه الشرق الأوكراني على ما هي عليه .
ومن المعروف أن الغرب وكييف يحملان روسيا مسؤولية تصعيد الأوضاع في شرق أوكرانيا، وفي هذا السياق قام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بفرض حزم متتالية من العقوبات على موسكو لم يسبق لها مثيل منذ الحرب الباردة، استهدفت قطاعات رئيسية في الاقتصاد الروسي هي الطاقة وصناعة الأسلحة والقطاع المالي، وطالت شخصيات روسية سياسية واقتصادية بارزة وشركات ومصارف أيضاً، وضمت "القائمة السوداء" الأوروبية وحدها إجمالي 95 شخصاً و23 شركة ومصرفاً . كما أعلن البنتاغون تجميد التعاون العسكري مع روسيا، وتم تجميد اجتماعات مجلس روسيا الناتو والتعاون بين الجانبين، واستبعدت روسيا من حضور قمة "الثمانية الكبار" الأخيرة لتعود مجموعة "السبع" مرة أخرى . في حين ترفض موسكو هذه الاتهامات وتعتبر عقوبات الغرب عليها غير شرعية وغير مجدية، وقامت هي الأخرى بفرض عقوبات على الغرب، فيما أطلق عليه "التراشق بالعقوبات" بين الجانبين، وتؤكد موسكو أن تجاهل سلطات كييف مطالب سكان شرق أوكرانيا والحملة العسكرية التي شنتها عليهم وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في المنطقة هي السبب الأساسي لتعقد الأزمة .
ويتطلع سكان دونيتسك ولوغانسك إلى أن تؤدي الانتخابات إلى إحلال السلام والاستقرار وتحسن أوضاعهم المعيشية والحياتية، وربما يفسر هذا الإقبال الكبير على التصويت رغم المعارك الدائرة والمخاطر الأمنية، والتفافهم ودعمهم لرموز السلطة الموجودة بالفعل في الجمهوريتين وتصويت الأغلبية لهم . كما يتطلع القائدان الحاليان للجمهوريتين (ألكسندر زاخارتشينكو في دونيتسك، وإيجور بلوتنيتسكي في لوغانسك) أن يؤدي فوزهما في الانتخابات الرئاسية إلى دعم شرعيتهما، وشرعية استقلال الجمهوريتين والسلطات بهما، ومنحهما مزيدا من القوة في مواجهة كييف .
ولكن يظل الأمر رهناً ليس فقط بالانتخابات والأبعاد القانونية وإنما يتوقف أيضاً على إرادة القوى الكبرى الفاعلة والنافذة التي تدعم أطراف الأزمة في أوكرانيا . ويدعم هذا سيناريو إطالة أمد الأزمة، خاصة في ضوء التوتر الحاد الذي تشهده العلاقات الروسية - الأمريكية التي وصفها وزير الخارجية الروسي سيرغى لافروف بأنها "بلغت الحضيض" . وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن "العدوان الروسي في أوروبا" يحتل المرتبة الثانية في سجل الأخطار التي تهدد السلم والأمن الدوليين بعد فيروس "إيبولا" وقبل التنظيمات الإرهابية مثل "داعش" والقاعدة . وفي رد فعل اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مقابلة مع صحيفة "بوليتيكا" الصربية، نظيره الأمريكي، باتخاذ موقف "عدائي" تجاه روسيا، ووجه انتقادات لاذعة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وحملهم كامل المسؤولية عن نمو الإرهاب، خاصة في منطقة الشرق الأوسط .
في ضوء الاستقطابات الداخلية بين كييف وسلطات شرق أوكرانيا التي قننت أوضاعها بانتخابات رئاسية وبرلمانية، تماماً كما فعلت السلطات في كييف بعد إزاحتها الرئيس السابق يانوكوفيتش من ناحية، وبين موسكو وواشنطن من ناحية أخرى، تستمر أوكرانيا بين شقي رحى، تسير نحو مستقبل غامض في ضوء أزمة اقتصادية تعتصرها وتزداد قسوة بمرور الوقت، وتجاذبات سياسية داخلية ودولية تتنازعها وتحكمها مصالح أطرافها دون مبالاة لتكلفتها الإنسانية والاقتصادية التي يتحملها الشعب الأوكراني وحده .

* أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"