بوصلة الأدب تؤشر إلى البسطاء

01:44 صباحا
قراءة 7 دقائق

استطلاع: نجاة الفارس

هل يعيد كورونا الأدب إلى هموم البسطاء والمهمشين؟ هؤلاء تجاهلهم الأدب لعقود، وهؤلاء هم أبطال الأزمة الحقيقيون، وكذلك البسطاء الذين تأثروا من الإغلاق وتركوا أعمالهم، ببساطة هل يدفعنا كورونا إلى إعادة النظر في مفهوم البطولة؟

يؤكد عدد من الروائيين والنقاد أن الأدب سيلتفت كثيرًا إلى الآثار المأساوية التي تلت قرارات الإغلاق التي اتخذتها حكومات معظم دول العالم تقريبًا، فالثقافة تحيط بعالم الفن والخيال والأفكار كما تحيط بالتشكيلات البشرية، لتصف طرق المجتمعات حين تؤسس القيمة والمعنى وتشتقها من تجربة أعضاء هذه المجتمعات.

ويضيفون أن المشاهد المؤلمة التي رأيناها لأشخاص يواجهون هذا الوباء، ولآخرين فقدوا أعزاء على قلوبهم دون أن يتمكنوا من وداعهم، كل هذا يصلح ليكون مادة أدبية وروائية قادمة، فربما تستلهم بعض الروايات والقصص القادمة موضوعاتها من هذه الحوادث ويكون أبطالها شخصيات عايشت تجربة الكورونا عن قرب، موضحين أن البطولة الحقيقية في الأدب الجيد لطالما كانت «الإنسان»، مهما تغيرت زوايا وأبعاد معالجة القضايا وطرح الأسئلة الوجودية في العمل الأدبي، يبقى الانتصار دائمًا وأبدًا للإنسان.

آثار مأساوية


يقول الروائي ناصر عراق: عقب توقف الجرائم الوحشية التي يرتكبها فيروس كورونا ستعيد البشرية حساباتها بشكل جذري لا في مجالات السياسة والاقتصاد والصحة فحسب، وإنما في الأدب والفن والفكر أيضاً، فقد فضح هذا الفيروس الخبيث هزال الأسرة الإنسانية وتفككها، فما إن غزا مدينة صغيرة في الصين حتى انطلق حول العالم يخنق الناس ويحصد أرواحهم في عملية اغتيال غير مرئية تحدث في وقت واحد، عملية غادرة سريعة لم يعرفها كوكبنا المنكوب من قبل، ومن هنا أتخيل أن الأدب سيلتفت كثيرًا إلى الآثار المأساوية التي تلت قرارات الإغلاق التي اتخذتها حكومات معظم دول العالم تقريبًا، وبالتالي سيشرع الروائيون والقاصّون والمسرحيون وكُتّاب السينما والدراما التلفزيونية في كتابة نصوص تتكئ على المرارات التي تعرض لها الملايين من البشر ممن فقدوا وظائفهم جراء هذا الإغلاق الاضطراري.

قد يغدو العامل البسيط في مصنع صغير بطلاً لرواية تستعرض مواجعه وهو حبيس بيته بلا وظيفة ولا راتب، أو قد تتصدر بائعة خضراوات فقيرة في سوق شعبي أحداث مسرحية تضج بالصراعات العنيفة، أو قد يقدم قاصّ موهوب على التقاط مفارقة شجية لأسرة عادية مات عائلها الوحيد بسبب الفيروس البغيض، وهكذا يسترد المهمشون بهاء حضورهم المؤثر في حياتنا داخل نصوص أدبية متميزة، في ظني أن الأفكار تنضج الآن في مخيلة المبدعين، تنضج على مهل ونحن نحسب بأسى كل ساعة أعداد الوفيات هنا وهناك، ونطالع بألم أرقام الإصابات التي ترتفع بالآلاف من يوم إلى آخر، ونتأمل بحزن أحوال باريس وروما ومدريد ونيويورك والقاهرة وبيروت وغزة والجزائر ومراكش، وتنفطر أفئدتنا ونحن نشاهد ملايين الناس البسطاء الذين جردهم كورونا الشرس من وظائفهم وأعمالهم فاضطروا إلى طلب المعونات من حكوماتهم، ونحلم جميعًا باليوم الذي يتوصل فيه العلماء إلى اكتشاف لقاح يذود عنا مكر الفيروس الكريه.

موقف موحد

تقول الدكتورة مريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية: إن الإنسان هو صانع مصيره وتاريخه، وهي النتيجة المنطقية للحرية والتي تعتبر من أعظم فضائل الإنسان، وإن مجتمعنا في الإمارات مثل كل مجتمع حر آخر، وزماننا مثل كل زمان آخر وكل منا يريد أن يكون موفّقاً في هذا العصر، واليوم تلاحَم الموقف مع الزمان مع الإنسان، وأصبح للإنسان موقف موحد أمام من يمكن أن يهدد وجوده أو يدمر مؤسساته بكل أنواعها.

إن الأدب من المنظور الإنساني كان سبب النهضة على مر العصور، ومن اليقين أن كل ما يؤثر في الإنسان يظهر في ردود أفعاله وتعاطيه مع ما يؤثر في ذاته، والفنان أكثرنا حساسية ورهافة ليظهره في شكل نتاج فني أو أدبي، وهي ليست ممارسة مستحدثة وإنما طبيعية؛ فالثقافة تحيط بعالم الفن والخيال والأفكار كما تحيط بالتشكيلات البشرية، لتصف طرق المجتمعات حين تؤسس القيمة والمعنى وتشتقها من تجربة أعضاء هذه المجتمعات.

حالة مشتركة


الدكتورة أمل التلاوي ناقدة وأكاديمية تقول: تشكّل الأوبئة حالةً إنسانيةً مشتركة، فهي ليست كالحروب التي نجد فيها طرفي نزاع متضادين، وليست كالكوارث التي نستطيع حصرها بجغرافيا ما، فهي عابرة للحدود تجتاح الكل، وقتئذٍ يكون حفاظ الإنسان على الإنسان جزءًا من حفاظه على ذاته. إن خَلْق حالةٍ إنسانية جمْعيّة لمواجهة الوباء لا شك يؤثر في الأدب واتجاهاته، فهي تضربُ القلق الأعظم عند البشر وهو القلق الوجودي، وتضعنا أمام ثنائيةٍ لا مهرب منها بين الحياة والموت.

إن السؤال عما تطرحه مثل هذه الأزمات من أدب، وهل تجعلنا نشعر بفئات المجتمع المهمّشة والبسيطة أو الفئات الأكثر عرضة للمسؤولية مثل خط الدفاع الأول من الكادر الصحي، هل سيكون لهذه الفئات وجودها في المؤلفات بعد الأزمة، ودورها البطولي في الأدب؟. كثيرةٌ هي المشاهد المؤلمة التي رأيناها لأشخاص يواجهون الوباء، ولآخرين فقدوا أعزاء على قلوبهم دون أن يتمكنوا من وداعهم، وهذا ما أراه يصلح كمادة أدبية وروائية قادمة، فربما تأخذ بعض الروايات والقصص القادمة شكلها من هذه الحوادث ويكون أبطالها شخصيات عايشت «الكورونا» عن قرب، وما يميزها أنها واقعيّة ومؤلمة في آن، لكن متى سيحدث هذا؟

لا نستطيع أن نتوقع المدة التي يحتاج إليها الأديب ليتعامل مع الأزمات، فردّة فعله وتناوله للموضوع ليست مجرد وصف أو تأريخ له، ربما يحتاج الأمر إلى المزيد من الوقت حتى يُبديَ تعاطيه مع الأزمة ويطرحها من منظوره الخاصّ.

حساسية

الدكتور جمال محمد عودة مقابلة، أستاذ الأدب العربي الحديث ونقده في جامعة الإمارات يقول: لعلّ من المبكّر أن نتحدّث عن تأثير «كورونا» في الأدب بعنايته لفئة ما أو تجاهله لأخرى، فقد دأب الأدب بشتّى فنونه على العناية بكلّ أبناء الحياة على مرّ العصور، وعلى تفاوت مستوياته في ذلك؛ لأنّ الأدباء بعامّة هم أصحاب حساسية عالية في رصد هموم البسطاء والمهمّشين والمهمومين، ويرون إلى كثير منهم على أنّهم هم الأبطال الذين يستحقّون التخليد والتمجيد بإنسانيّتهم الصادقة.

وما يلفت النظر في هذه الأيام أنّ الفيروس المسبب للمرض بثّ في نفوس البشرالخوف من الموت «هادم اللذات ومفرّق الجماعات»، وقد غدا هذا الخوف كالموت ذاته «المسوّي الأعظم» أو القاضي بالمساواة أو العدالة التامّة بين الناس، ففرّ الجميع إلى الجميع يطلب نجدته، وفرّ الجميع من الجميع يتّقي شرّ بلواه، ويخشى كارثة عدواه، فلم نعد نرى من أبطال سوى أولئك الأطباء والممرضين والعمّال والمتطوّعين الصابرين المحتسبين الذين يقضي كثير منهم بالعدوى، جنودًا مجهولين، وشهداء مغدورين.

هذه اللحظة أو زمن الكورونا، غدت علامة على تحوّل خطير في حياة الناس، وإشارة إلى بدء طور جديد من أطوار عيش البشر، أبرز ما يميّزها على الإطلاق حفظ الإنسان في أقصى درجات العزلة الجسديّة، مع المحافظة لديه على أقصى درجات التواصل والاتّصال، وصار العيش من جديد عيشًا أفقيًّا، يخلد الإنسان فيه متنعّمًا في غابة صناعيّة غنّاء أو مترفًا في جنّة أرضيّة خضراء أو متنائيًا في صحراء شاسعة معمورة بإعجاز، وصار داعي الحضارة، ورسول التقدّم العلمي والتقني بطل هذا العصر وطاغيته معًا يصيح فيها بأبناء جلدته من البشر صارخًا بذعر ورجاء: ابتعد أيها الإنسان عن أخيك الإنسان، فلا تضرّه ولا يضرّك، ولكن احرص عليه وعلى نفسك كلّ الحرص، ولا تغب عن بصره، ولا يغب عن ناظريك؛ فابق معه، مبتعدًا عنه بانفصال تام، واشتبك به باتّصال دائم، حتى تجتازا معًا إلى أرض الجنّة القادمة، وتستمتعا كلاكما بفردوس الوعد الخالد بالخلاص الجميل.

زوايا وأبعاد

الروائية إيمان اليوسف، تقول: إن البطولة الحقيقية في الأدب الجيد لطالما كانت «الإنسان»، مهما تغيرت زوايا وأبعاد معالجة القضايا وطرح الأسئلة الوجودية في العمل الأدبي، يبقى الانتصار دائمًا وأبدًا للإنسان، لذا لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نظلم الأدب بالقول إنه تجاهل البسطاء والمهمشين، نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون، والأدب ينتصر لجميع الأشكال والفئات المجتمعية مهما كانت، في الواقع لا وجود لمصطلحات المهمشين في الأدب، خاصة حين تتحدث عنهم وتقلدهم الأعمال الأدبية أوسمة البطولة، ونادرًا ما نجد النقيض، أي بطولات روائية لأشخاص أنصفهم التاريخ أو في أحوالٍ أفضل، مجدهم دون استحقاق حقيقي منهم.

إن أعمالًا أدبية كثيرة وضعت الإنسان في مقدمة أولوياتها، مثل ثلاثية نجيب محفوظ ودعاء الكروان لطه حسين وبنك القلق

ويا طالع الشجرة لتوفيق الحكيم وأعمال غسان كنفاني وصائد اليرقات لأمين تاج السر وأعمال أمين معلوف والطلياني لشكري مبخوت وساق البامبو لسعود السنعوسي وأعمال سنان أنطون وأعمال إنعام كجه جي وأعمال مها حسن وخالد خليفة وغيرها الكثير على صعيد الأدب العربي، مقابل أعمال كأوليفر تويست وآمال عظيمة لتشارلز ديكنز قديمًا وأعمال إيزابيل الليندي وأليف شافاق ومايا أنجيلو وتوني موريسون وتشيماماندا نجوزي اديشي التي عملت كمحرك فاعل ومؤثر في وضع الأمريكان من أصول إفريقية ومن قضايا التمييز العنصري، بالإضافة إلى عداء الطائرة الورقية لخالد حسيني وأغنية هادئة لليلى سليماني والتي فازت بجائزة الجونكور، أننا حين نتكلم عن الأدب الحقيقي، فهو صوتٌ لمن لا صوت لهم قبل أي شيء آخر.

اليوم ونحن في هذه الفترة الحرجة وغير المسبوقة بكيفيتها وإسقاطاتها وأبعادها، ندرك ونحن في عزلتنا أن الأدب سُيصيبه الأثر الذي أصاب كل شيء سواه، الفرق هنا أن الأدب مؤثر، يتفاعل بشكل علاقة حيوية من التأثير والتأثر مع الواقع، كصفحة ماءٍ من بركة عميقة، تتشكل ملامح المرحلة على الأدب خاصة في الفترة القادمة، لا أنصح في الاستعجال بكتابة أو معالجة الأمر، فأفضل ما يميز الكاتب الجيد من سواه هو القدرة على الملاحظة ثم الحكمة في تناول الأمور من زوايا لا يمكن لغيره رؤيتها وطرحها بشكل حقيقي وفاعل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"