د. صباح جاسم: حماية المواقع التاريخية أولويتنا

مدير «الشارقة للآثار» يرى أن التنقيب مسؤولية أجيال
05:42 صباحا
قراءة 7 دقائق
حوار: أمل سرور
مشوار طويل ورحلة مثيرة معبأة برائحة التاريخ خاضها خبير الآثار صباح عبود جاسم، بدأت من بابل في العراق مروراً بكمبردج في لندن حتى أصدر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة مرسوماً أميرياً رقم (58) لسنة 2016 بتعيينه مديراً عاماً لهيئة الشارقة للآثار.
د. جاسم ، الرحالة الذي ترأس حملات التنقيب عن كنوز العراق، وليبيا وسوريا ومصر، وساهم في إنقاذ مشروع سد حمرين الذي أسفر عن اكتشافات أثرية مذهلة، رأى في الإمارة الباسمة مستقراً له، عندما قرر أن يقضي بقية حياته على أرضها، لينقّب ويفتش عن تاريخها العتيق من خلال مسيرة طويلة بدأها في 1999، شهدت الكثير من الاكتشافات في معظم أراضي الشارقة.
التقينا به في مكتبه الجديد في هيئة الشارقة للآثار، لننقّب في أوراقه القديمة ونتصفح دفاتره المستقبلية في محاولة لاكتشاف خططه المقبلة.
استقبال هادئ وملامح تتسم بالبهجة والأمل، تلك كانت انطباعات أولية ارتسمت داخلي منذ الوهلة الأولى للقائي د. جاسم، لأطرح عليه علامات استفهام خاصة بأهمية وجود هيئة متخصصة للآثار في الشارقة، وحدود مسؤولياتها، والخطط المرسومة لعملها.. التفاصيل في الحوار الآتي.

} ماذا يعني وجود مثل هذه الهيئة في الشارقة؟

إنه يعني الكثير، فهي الإدارة المختصة بكل ما يتعلق بعالم الآثار من ترميم ومعارض وتنقيب وصيانة، ولا يمكن أن نستثني اهتمامها بالأبحاث العلمية الجديدة. والحقيقة أن من أهم أدوار الهيئة أيضاً، والذي يجب ألا نغفله، هو حماية المواقع التاريخية ونشر التقارير والمؤتمرات التي تعقد من وقت إلى آخر.

والحديث عن الهيئات المختصة بالآثار في الشارقة يطول وليس بجديد، فعاصمة الثقافة الإسلامية تتمتع بتاريخ طويل في الاهتمام بهذا العالم وتكريس جهودها له، إذ تأسست في العام 1986 إدارة مختصة بالآثار والتراث معاً، وفي 1994 قرر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي فصل الآثار عن التراث نظراً لضخامة المسؤولية، فعالم الآثار حقل واسع ومملوء بالأحداث الجديدة يوماً بعد آخر. صحيح أن هناك علاقة وثيقة بين الآثار والتراث ، وتنسيق مستمر ومتواصل بينهما ولكن في النهاية لكل واحد طريقه الخاص، لذا انفصلت لإدارتين لتكون واحدة متخصصة في التراث وأخرى اهتمامها ينصب على الآثار. وبقيت الحال كما هي عليه إلى أن زادت المسؤوليات، وتضخمت المشروعات خاصة مع الاكتشافات الجديدة التي حققت نتائج باهرة وناجحة وأحدثت ردات فعل على المستويين المحلي والعالمي. تلك الاكتشافات فوجئنا على ضوئها بأننا في حاجة ملحّة إلى إعادة كتابة التاريخ، ومن ثم ازدادت أعداد بعثات التنقيب من مختلف أنحاء العالم بجانب البعثات المحلية التي تنقب على مدار العام ومن هنا وجدنا زخماً أثرياً هائلاً، وكانت انطلاقة صاحب السمو حاكم الشارقة، وسموه هو الرجل المثقف الواعي وذو النظرة الثاقبة، عندما أدرك مدى أهمية تلك المكتشفات والمسؤوليات الضخمة ، فقرر إنشاء هيئة الشارقة للآثار للتأكيد على مسؤوليتها المباشرة، وزيادة قدراتها المادية والعلمية لتضطلع بمهامها بما يوازي حجم المكتشفات الأثرية وتوسعها وما يطرأ عليها من جديد، وها نحن نحاول أن نكمل مسيرتها الواعية من أجل تحقيق الأهداف المرجوة منها.

} وما حدود مسؤولياتكم في هيئة الشارقة للآثار؟
دورنا الرئيسي يكمن في حماية المواقع الأثرية التي تنتشر من الساحل الغربي للخليج العربي، والمنطقة الوسطى والساحل الشرقي ابتداء من كلباء مروراً بخورفكان وحتى دبا، فالمواقع كثيرة ومتعددة وتنتشر في مساحة جغرافية واسعة، وتعود إلى فترات زمنية مختلفة خاصة مع التنوع الحضاري المتميز الذي مرّت به الشارقة عبر سلسلة متعاقبة من العصور ، لذا فإن مهمتنا الرئيسية تبدأ بتنصيب أسوار، ووضع نقاط حراسة عليها، ووضع خطط مدروسة للتنقيب، علماً بأن عملية التنقيب نفسها طويلة وشاقة وتتطلب جهوداً وأموالاً ووقتاً طويلاً، فهي ببساطة مسؤولية أجيال. وأيضاً دورنا في الهيئة يتضمن الإشراف على البعثات الأجنبية التي تنقّب وجاءت من كل دول العالم مثل اليابان وأوروبا وأمريكا، وهي المسؤولة عن تنقيباتها في الأماكن التي تختارها وتتضمن تلك البعثات مهندسين وجيولوجيين وعلماء آثار، وتأتي من جامعات معترف بها دولياً بعد أن نبرم عقوداً معها. ولا يمكن ألا أتحدث عن دور هيئة الشارقة للآثار في تدريب الكوادر المحلية من أجل القيام بالتنقيبات التي تستمر طوال العام، وهذا يأتي من خلال ندوات ومؤتمرات ومحاضرات أكاديمية، ورحلات ميدانية للمواقع الأثرية القديمة.


} قلت في تصريحات سابقة إن منطقة الجزيرة العربية قد تأخرت كثيراً في الاهتمام بالآثار. ماذا يعني ذلك؟

التنقيب عن الآثار ليس مسابقة ، ولكن علينا أن نعرف أن تلك المنطقة تأخرت بالفعل في عالم التنقيبات لأسباب عديدة ، أهمها أن دول العالم اهتمت بهذا المجال منذ القرن الثامن عشر، وتحديداً في بلاد الرافدين ووادي النيل. مصر والعراق هما اللتان نالتا كل الاهتمام من البعثات الأولى التي بدأت بالبحث والتنقيب وإن كانت الأهداف استعمارية من الطراز الأول. والحقيقة أن أغلبية تلك العمليات لم تجر وفق أساليب علمية وكان الغرض منها فقط هو تحقيق اكتشافات مثيرة في أقصر فترة وبأقل جهد، من أجل الحصول على الآثار وتهريبها والتربح من تجارتها. وظل الاهتمام منصباً على مصر والعراق، وكانت منطقة الجزيرة العربية بالنسبة للبعثات العالمية هامشية، وسادت الفكرة عن تلك البلاد بأنها صحراوية، ولكن بظهور النفط تغيرت المفاهيم تماماً، وحصلت دول الخليج على مكانها الطبيعي لتشهد تطويراً عمرانياً هائلاً، ونجحت بجدارة في أن تجذب أنظار الكثيرين من أنحاء العالم إليها، وهنا السر وراء تأخر منطقة الجزيرة العربية في الدخول إلى هذا العالم، لأنها دخلته ببساطة في منتصف القرن العشرين. ومنذ تلك الفترة بدأت بعثات التنقيب من مختلف دول العالم في عملها لتجيء النتائج مشجعة، وتلحق المنطقة بقطار التقدم السريع وعلى رأسها الإمارات.

والحقيقة أن مشروع مليحة الأثري الذي اكتشف مؤخراً في الشارقة أثار ضجة عالمية هائلة مما يدلل على صدق كلامي.

} إذاً ، كنت من أهم المنقبين في مشروع مليحة السياحي قاطعني مبتسماً: موقع مليحة عمره يصل إلى ملايين السنين، عندما عبر الإنسان الأول مضيق باب المندب قادماً من شرق إفريقيا كي يستقر فترة في كهوف الجبال ليرتحل بعدها إلى أصقاع العالم الأخرى في أوروبا وآسيا.

المواقع الأثرية في منطقة مليحة تتمتع بسجل أثري متواصل يقدم مادة تاريخية خصبة للباحثين والسيّاح وهواة الآثار، ولا أبالغ عندما أقول إنها منطقة تفتح نافذة على حضارات يرجع تاريخها إلى مئات الآلاف من الأعوام وصولاً إلى فترة ما قبل ظهور الإسلام، كانت خلالها مليحة مهداً للحياة الريفية، وجزءاً أساسياً من طرق القوافل التجارية، وهو ما منحها تواصلاً دائماً مع بقية الحضارات التي نشأت في حوض البحر المتوسط وجنوب آسيا وجنوب الجزيرة العربية وشمالها، إضافة إلى وادي الرافدين ومناطق شرق الجزيرة العربية. ولم تنته اكتشافاتنا عند هذا الحد بل إن تنقيباتنا مستمرة والمشاريع السياحية في المشروع سوف تفاجئ الجميع ، خاصة أن تلك الاكتشافات الأثرية جعلت المنطقة جديرة بترشيحها لتكون موقعاً للتراث العالمي في قائمة «اليونيسكو»، وهذا بالطبع سيساعد في المحافظة على المواقع الأثرية المميّزة التي يعود تاريخ بعضها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وحماية البيئة الفطرية.

} هل تتفق معي على أن عالمنا العربي لا يزال يحبو في الاهتمام بعالم الآثار رغم أنه يمتلك الكثير من الكنوز على أراضيه؟

مع الأسف الشديد، لا نزال لا نعرف ولا نقدر أهمية آثارنا، والكثير في عالمنا العربي ليس لديه الوعي الكافي بهذا العالم الذي لا يقدر بثمن. الشعوب العربية في حاجة إلى توعية وثقافة لكنوزها، وقد تكون الأحداث الساخنة التي يمر بها كثير من الدول العربية الآن والتي تعرضت لهجمات من جماعات ظلامية متخلفة ، هدمت البشر والحجر في طريقها قد قضت مع الأسف على الكثير من الآثار التي لا تعوض ولا تقدر بثمن، جماعات مع الأسف تريد أن تطمس هويتنا العربية، ولكن رغم كل هذا تأتي الشارقة حاملة بريق الأمل، لتجدد المشروعات الأثرية والسياحية في المنطقة، والحقيقة أنني أعيش أجمل أيام حياتي على أرض الإمارة الباسمة، التي يقودها حاكم واعٍ ومثقف وصاحب رؤية، ولا أخفي عليك أنني أستشير سموه في أشياء كثيرة خاصة بهذا العالم الذي يهتم به، ويعطيني تفسيرات كثيرة خاصة أن سموه يهتم بالكتابات العربية القديمة واللغات الآرامية والعربية ولديه نظريات واقعية نستفيد منها ونهتدي بآرائه.

كنز مليحة

لعل إنشاء هيئة الشارقة للآثار كان ضرورة ملحة وخاصة بعد اكتشاف الكنز الأثري في منطقة مليحة.
عندما تتأمل تاريخ مليحة تكتشف أنها كانت وما زالت مركزاً مهماً في شبه الجزيرة العربية وتحديداً في التجارة العالمية التي تربط ما بين أقطار حوض البحر الأبيض المتوسط ومثيلتها المطلة على المحيط الهندي وكذلك مع وادي الرافدين.
وما زادها أهمية هو ما جادت به المنطقة من اكتشافات أسفرت عن ظهور كنز أثري أعلن عنه قبل أشهر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة ليشهد الإعلان عن انطلاق مشروع مليحة للسياحة الأثرية والبيئية الذي يمزج بين الماضي والحاضر ويعد للمستقبل.

المكتشفات أظهرت أن مليحة بلغت من الرقي في عصورها القديمة ما جعلها تتحول إلى سوق للمناطق المجاورة، لتظل آهلة بالسكان خلال الفترة بين 300 قبل الميلاد و300 م، و دفن أهلها أشرافهم في قبور خاصة بنوا عليها أبراجاً جنائزية دفنت فيها معهم أهم مقتنياتهم وأنعامهم.

ولا يمكن أن نتحدث عن المكتشفات ولا نلقي الضوء على النقش الجنائزي الذي يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد وهو ذلك الكنز الأثري الجديد والتاريخي الذي كشف عنه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي. هذا الكنز كشفه فريق بلجيكي من متاحف الفن والتاريخ في بروكسل بالاشتراك مع فريق إدارة الآثار في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. وينطوي الكنز على أهمية تاريخية كبرى للمنطقة، فهو يتكون من نقش ينتصب فوق قبر كبير يتكون من حجرة دفن بقياس 5.20 متر مربع ويحمل النقش المكتوب باللغتين الآرامية والعربية الجنوبية هوية وسلالة الشخص المتوفى وهو عمد بن جر بن علي كاهن ملك مملكة عمان والتاريخ الذي تم فيه بناء القبر هو عام 222/‏221 أو216/‏215 قبل الميلاد ما يجعله أقدم اكتشاف تاريخي حتى الآن يرد فيه اسم لعمان.
وينقسم مشروع مليحة إلي قسمين، الأول أثري وهو ذلك الذي يبدأ من ضريح أم النار الذي يقع ضمن مركز مليحة للآثار حيث يعتبر من أكثر أبنية القبور إثارة للإعجاب. واستخدم موقع الدفن هذا والذي شيد في عام 2300 قبل الميلاد تقريبا لمدة تقارب 200 عام، ويعتبر هذا القبر الدائري الذي يبلغ قطره 13.85 متر من أكبر القبور خلال مرحلة أم النار في جميع إمارات الدولة. ويأتي القسم البيئي الثاني من مشروع مليحة والذي يتضمن تضاريس طبيعية متنوعة مثل الجبال والصحراء بالإضافة إلى احتوائه على تنوع كبير ونادر من النباتات الطبيعية، يستطيع الزائر أن يخوض غمار الكثبان الرملية في رحلة سفاري يوفرها مركز مليحة لزائريه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"