«إن مع العسر يسراً»

من يوميات عام «كورونا» (4)
02:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

كان للعرب في قديم الزمان، تواريخ يتعارفونها خلفاً عن سلف، فحينما هاجر الرسول، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة المنورة، أطلقوا على ذلك عام الهجرة، وقيل عام الإذن (بالرحيل إلى المدينة). وهناك عام الفيل، وهو العام الذي أغار فيه أبرهة الحبشي، حاكم اليمن من قبل مملكة أكسوم الحبشية، على الكعبة قاصداً هدمها، ليجبر العرب وقريش على الذهاب إلى كنيسة «القليس» التي بناها وزينها في اليمن. وسمي العام بالفيل، لأن هذا الغازي استخدم الفيلة في غزوته الفاشلة في العام 570، وهو العام نفسه الذي ولد فيه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا أدري، لماذا أعدت فتح صفحات من كتاب قديم (أثري)، وهو «المختار من تاريخ الجبرتي»، ونشر في مصر في أواخر خمسينات القرن الماضي، وقد ابتعته منذ عقود من مكتبة عتيقة في ميدان العتبة بالقاهرة. وقد جمع الجبرتي بعض الوقائع والمحن، التي أدركها وشاهدها، أو اطلع عليها من دفاتر الكتبة، أو سمعها من أفواه الشيوخ المسنين، في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر.
ويذكر الجبرتي أن «وباء الطاعون اجتاح مصر في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، ومات ما لا يحصى من الأطفال والشباب والأجناد والأمراء والمماليك كما شهدت مصر حالة شديدة من الجوع، وكثر الصياح والعويل ليلاً ونهاراً. ويقول: «لا تكاد تقع الأرجل إلاَّ على خلائق مطروحين بالأزقة، وإذا وقع حمار أو فرس، تزاحموا عليه، وأكلوه نيئاً».
ويضيف أيضاً: «في النصف الأول من العام 1813 زاد الإرجاف بعودة الطاعون، وبخاصة في الإسكندرية، فأمر إبراهيم باشا، بعمل «كرنتيلة» بثغر رشيد ودمياط وشبرا،
ومنع المسافرين بالبر، وأمر بقراءة «صحيح البخاري» بالأزهر، وفي المساجد والزوايا، وبقراءة «الملك» و«الأحقاف» في كل ليلة، بنيّة رفع الوباء، فاجتمعوا إلاَّ قليلاً بالأزهر نحو ثلاثة أيام، ثم تركوا ذلك، وتكاسلوا عن الحضور».
وتذكر كتب التاريخ أن «عام الرمادة»، كان هو عام الجوع الذي أصاب الناس في المدينة المنورة، «حينما قل المطر واشتدت الريح، حتى اسودَّت الأرض، وصار لونها أشبه بالرماد، وكان ذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، والذي أنفق على المحتاجين من بيت المال، حتى استنفده. وكاتَب الخليفة ولاته على الشام ومصر والعراق، طالباً العون، فجاءه المدد، واستمرت هذه الأوضاع نحو تسعة أشهر، ثم تحول إلى الخصب.
وفي العام نفسه، جاء وباء الطاعون الذي بدأ في قرية فلسطينية اسمها «عمواس» وانتشر في الشام والعراق، وسمي «طاعون عمواس»، وقَتل خلقاً كثيراً من المسلمين وقادة الجيوش، ومن بينهم : أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان.
وفي العام 1800، انتشر الطاعون في المغرب العربي، وكانت له عواقب سياسية واجتماعية واقتصادية ضخمة، وتراوحت أعداد ضحاياه ما بين الربع والنصف من عدد السكان. وقد مهّد الجوع والجراد لهذا الطاعون، ليرتع في أجساد الناس. وفي تلك المحنة، أرسل ملك إسبانيا، إلى المغرب طبيباً مختصاً وأدوية، لكن الوباء انتشر في جنوب إسبانيا، وزاد عدد ضحاياه في إشبيلية، حينما طلبت الكنيسة من أتباعها التجمع فيها من أجل الصلاة والدعاء لإبعاد المرض، فنتج عن ذلك، وفقاً للمصادر التاريخية، انتشار الوباء بشكل كبير، وأخذ ينتقل عبر فيروس القوارض إلى الإنسان في موانئ البحر الأبيض المتوسط، ومنها إلى أوروبا وشمال إفريقيا على مدى سنين في القرن التاسع عشر.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر انتشر أيضاً وباء الكوليرا، وقيل وقتها إنها أعوام الكوليرا، وأصاب دولاً عربية، ومن بينها مصر، وكذلك أمريكا حيث مات الرئيس الأمريكي الحادي عشر جيمس بوك في نهاية النصف الأول من القرن بمرض الكوليرا.
كما شهدت أمريكا في العام 1874، عام الجراد، حينما هاجم جراد الجبال الصخرية سهول عدد من الولايات الأمريكية، بخاصة تكساس وداكوتا، بسبب التقلبات المناخية المفاجئة، وتحول حينها لون السماء فوق معظم السهول الكبرى من الأزرق إلى الأسود، وحُجبت أشعة الشمس بسبب كثرة أسراب الجراد الذي التهم المحاصيل والمناطق الخضراء، بما في ذلك التبغ وخشب المنازل، واستخدم الأهالي البارود وإشعال النيران في مقاومة الجراد، الذي تكاثر بيوضه ويرقاته بشكل كثيف ووحشي.
ولُقِّبت تلك السنة بعام الجراد، وساهم الجيش الأمريكي بتقديم المساعدات الإنسانية للسكان ولم تنقرض هذه الفصيلة من الجراد إلاَّ في مطلع القرن العشرين.
وشهدت فلسطين وجنوب سوريا في مطلع نشوب الحرب العالمية الأولى، عام الجراد أيضاً، حيث امتزجت قسوة الطبيعة مع المجاعة والأوبئة وهجمية الحرب، وتهجير شباب من أبناء القرى العربية للمشاركة في حروب تركيا العثمانية في البلقان والسويس، على حد قول الكاتب سليم تماري في كتابه: «عام الجراد: مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى».
وهناك عام «الهزة الكبرى»، أي عام الزلزال الكبير في 1927، حيث اعتاد كبار السن في العقود المتأخرة من القرن الماضي على تأريخ ميلادهم أو ميلاد أبنائهم بعام «الهزة الكبيرة»، وهو الزلزال الكبير الذي ضرب منطقة سوريا الجنوبية، وخلَّف موتاً ودماراً ظلت الأجيال تتناقل أخبارها عقوداً طويلة.
وهناك أيضاً عام النكبة 1948، وعام النكسة1967، وها نحن والعالم، نعيش عام ال«كورونا» في العام 2020 وسيمر هذا العام بإذن الله وتعود الحياة والبسمة والأمل و«إن مع العسر يسراً».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"