الصحافة تدخل عالم الواقع الافتراضي

خطوة جديدة بعد الروبوت المحرر والطائرات بلا طيار
23:15 مساء
قراءة 7 دقائق
إعداد: عبير حسين

قبل عامين أثيرت دهشة الوسط الصحفي العالمي، حين أعلنت وكالة «أسوشيتدبرس» وصحيفة «واشنطن بوست» عن استخدامهما للروبوت المحرر، في صالات تحرير الأخبار المركزية لديهما، على أن تقتصر مهامه خلال مدة التجربة على تحرير أخبار الطقس والحالة المرورية على الطرق السريعة. وقتها تبادل الجميع الأسئلة الحائرة عن مستقبل الصحافة التقليدية أمام طوفان التقنية الحديثة، وتخوف بعضهم من أن تكون الصحافة إحدى المهن التي ستحتلها «الروبوتات» خلال القرن المقبل، إلا أن المخاوف هدأت قليلاً إذ لم تنتشر التجربة في عدد آخر من المؤسسات الصحفية والإعلامية.

قبل عدة أشهر حققت الصورة الصحفية قفزة تقنية هائلة بعد الاعتماد على الطائرات من دون طيار، في التقاط ورصد صور لأماكن يصعب التصوير فيها، مثل مناطق الحروب والصراعات المسلحة، أو الكوارث الطبيعية. واليوم تدخل الصحافة التقليدية تجربة جديدة مختلفة لعالم الواقع الافتراضي لتحكي قصصها الإنسانية عبر منافذ خيال لا حدود له، تأخذ القارئ لمعايشة الحدث كما هو، ولتبدأ كتابة فصل مختلف يمكن تسميته «صحافة المعايشة» يختلف عن كل ما عرفه العالم من قبل.

منذ أيام، خطت صحيفة «نيويورك تايمز» خطواتها الأولى في عالم «الواقع الافتراضي»، وقدمت طريقة جديدة ومبتكرة لسرد القصص الإخبارية بفضل تطبيق إلكتروني، وعلبة كرتونية مخصصة لمشاهدة الفيديوهات ومعاينة الصور والرسوم البيانية، مرفقة للتغطية الإخبارية. وتُمكن المستخدمين من التعمق في متابعة الحدث عن طريق إدخال هواتفهم الذكية داخل العلبة ومشاهدة الفيديو كأنهم جزء من الحدث ومشاهدته بزوايا مختلفة.
وأطلقت الصحيفة لهذا الغرض تطبيقاً جديداً على الهواتف الذكية ونظارات «غوغل» تسمح للمشاهدين بمشاهدة فيديوهات الواقع الافتراضي التي ستوزعها مجاناً على المشتركين للنسخ الورقية، أو يمكن شراؤها بنحو 30 دولاراً فقط لغير المشتركين.
وعرضت الصحيفة فيلمها الأول بتقنية «الواقع الافتراضي» تحت عنوان «المهجرون - THE DISBLACED» ويروي قصص 3 أطفال أجبروا على ترك منازلهم في كل من جنوب السودان وشرق أوكرانيا وسوريا. وأنتج الفيلم بالتعاون مع «فيرس» وهى إحدى الشركات المختصة في تقنية الواقع الافتراضي. وسيُمنح المشتركون في الصحيفة الإلكترونية رموزاً ترويجية تمكنهم من الحصول على نظارات «غوغل» للواقع الافتراضي.

ويقول دين باكويت، الرئيس التنفيذي للصحيفة: «أنتجنا أول قطعة صحفية بهذه التقنية، وسنستخدم الواقع الافتراضي لتسليط الضوء على الأزمات الإنسانية المخيفة في حياتنا المعاصرة».
وعلق جايك سيلفرستين رئيس التحرير، قائلاً: «قوة الواقع الافتراضي تكمن في منح المشاهد شعوراً فريداً من التعاطف مع الناس في ظل الأحداث التي يعيشونها. وفي سياق الأحداث الدولية، وتقارير الصراعات، يعتمد علينا القرّاء في جلب القصص الحقيقية من الأماكن النائية، ونعمل اليوم على نقل الواقع كما لو كنت بداخله». وتتبنى الصحيفة منذ مدة مشروعاً كبيراً يعرف ب«الواقع الافتراضي للنيويورك تايمز NYTVR».

الصحفية نونى دي لابينا، التي عملت سابقاً مراسلة لمجلة «نيوزويك» قبل انتقالها إلى «نيويورك تايمز»، كانت من أكثر المتحمسات لصحافة الواقع الافتراضي، وتتولى مهمة تطوير الفكرة لتصبح «صحافة المعايشة» أو الوجود الأكثر انتشاراً خلال العقد المقبل. وقضت دي لابينا الأعوام الأخيرة في دراسة كيفية الاستعانة بتقنية الواقع الافتراضي في عالم الصحافة، وقدمت عدة أفلام وثائقية بنفس التقنية كان أهمها «مشروع سوريا» الذي أنتج بتكلفة من «المنتدى الاقتصادي العالمي»، وتناول قصص أطفال اللاجئين السوريين، وفيلم «جوع لوس أنجلوس» الذي دار حول كفاءة عمل بنوك الغذاء في الولايات المتحدة، وحصل على إشادة كبيرة عند عرضه في مهرجان «صندانس السينمائي» 2012.
وعن التقنية المستخدمة في عملها نقلت «نيويورك تايمز» عن دي لابينا: «نبدأ العمل بفيديو وصوت وصور لشاهد العيان، ثم نعمل على إعادة بناء الحدث بعناية باستخدام رسوم متحركة متقدمة، ونماذج من البيئة، وأصوات المكان الأصلي، بهدف إنشاء التجربة التي خاضها أول شخص مع الأحداث».
ويرتدي مشاهدو أفلام الواقع الافتراضي نظارات خاصة توفر لهم مجالاً أوسع للرؤية، ويسمح لهم بحرية التجول ضمن البيئة التي تعرض لهم صوراً ثلاثية الأبعاد، ويكون لهم حرية اختيار أي جزء ينظرون إليه من دون أن يتمكنوا من التأثير في الطبيعة التسلسلية للسرد الحقيقي للأحداث.
وتؤكد دي لابينا أن دخول الصحافة التقليدية عالم الواقع الافتراضي سيغير كثيراً من الفهم والعواطف البشرية تجاه القصة الخبرية. وتشير إلى أن صحافة الواقع الافتراضي ستصبح «صحافة غامرة» لأنها ستضع القارئ وسط الأحداث.

ودي لابينا درست الفنون السينمائية بمدرسة USCالأمريكية، وقبل عدة أعوام حصلت على دراسات خاصة بعالم الواقع الافتراضي مع بالمر لوكي مؤسس شركة «أوكولوس»، للواقع الافتراضي التي استحوذت عليها مجموعة «فيس بوك» في عام 2012، على يد الباحث مارك بولاس الذي يدير مختبر الواقع المختلط في «معهد التقنيات الإبداعية» في جامعة جنوب كاليفورنيا.

وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي تصادفه تقنية «الواقع الافتراضي» في عالم الترفيه، فإن انتشارها في عالم الصحافة يواجه عدة تحديات، أهمها صعوبة تنفيذ التقارير الصحفية بهذه الطريقة إذ تتطلب الاستعانة بفريق من المتخصصين في الرسوم المتحركة، ومصممي الشخصيات والصوت والنماذج ثلاثية الأبعاد، فضلاً عن صعوبة جمع مصادر الأحداث الحقيقية لتركيب الأجزاء معاً، وهو الأمر الذي يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد سواء عند استخدام منصات الأخبار التقليدية أو الواقع الافتراضي.
وتشير «نيويورك تايمز» إلى أن صحافة «الواقع الافتراضي» ستخضع لنفس المعايير الأخلاقية للصحافة التقليدية. وقالت: «نحن - الصحفيين- بحاجة إلى التأكد من تطبيق أفضل الممارسات الصحفية في تجميع هذه الأجزاء، وأن تتعلم الجماهير التعامل مع الواقع الافتراضي من خلال التفكير النقدي».
وعلى الرغم من أن الوقت ما زال مبكراً جداً لإصدار أحكام عن تجربة «الواقع الافتراضي» في عالم الصحافة التقليدية، فإن بعض ردود الأفعال الأولية عن تجربة «نيويورك تايمز» أظهرت تحفظاً من عدد كبير من الصحفيين الذين بادروا بالتعليق على موقع الصحيفة على الإنترنت وكانت حصيلة آرائهم تشير إلى أن القصص الصحفية لا ينبغي عرضها على منصات ترتبط حتى الآن بألعاب الفيديو والترفيه.
وبعد عدة أيام، اهتمت دي لابينا، باعتبارها المسؤول عن المشروع بالصحيفة، بالرد على هذه التحفظات، قائلة: «الواقع الافتراضي لم يعد مجرد منصة للترفيه التفاعلي. لنعترف بأن الصحافة التقليدية تواجه تراجعاً حاداً في عدد القراء بالتزامن مع الارتفاع المستمر لمستخدمي ألعاب الفيديو، هنا يمكننا استخدام منصة الواقع الافتراضي للوصول إلى جماهير جديدة».

تجارب سابقة في غرف الأخبار

كانت تجربة «نيويورك تايمز» الأولى في عالم الصحافة التقليدية، إلا أنها لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقتها عدة محاولات إعلامية، كانت أنجحها تجربة قناة ABCالإخبارية التي عرضت في منتصف العام، أحد تقاريرها الإخبارية باستخدام تجربة الواقع الافتراضي، وبثت من خلالها صوراً بزاوية 360 درجة، تابعها المشاهدون عبر هواتفهم الذكية عن طريق النظارات المنتشرة ومتواضعة السعر.

وقدم التقرير مراسل القناة ألكسندر ماراكوت، الذي قاد المشاهدين في رحلة إلى عمق دمشق بسوريا، وأظهر أجزاء من المناطق التي دمرتها الحرب هناك، إلى جانب المناطق الأخرى التي
ما زالت تحتفظ بتاريخ بلاد الشام. وأنتج الفيديو بالتعاون مع «Jauntللتقنية» وهو استوديو متخصص مقره كاليفورنيا، عمل على دمج صوت المراسل الذي تحدث من الاستوديو مع مشاهد من سوريا وكأنه هناك بالفعل.

ومطلع العام كتبت إيرين بولجرين، إحدى أهم مؤسسي مجلة «سيمبوليا» المتخصصة في تقديم استشارات دورية في الابتكار لوسائل الإعلام، مقالاً على موقع «Californiajournalism review»، لفتت فيه الانتباه إلى أهمية الواقع الافتراضي كمستقبل مختلف سيغير من شكل الصحافة التقليدية، وقارنت حاله اليوم بحال الهواتف النقالة عند بداية ظهورها وما ينتظرها من تطور هائل في مجالات متعددة، لن تقف عند حدود الترفيه أو التعليم. أشارت بولجرين في مقالها المهم إلى عدة تجارب ناجحة في هذا المجال، ومن بينها فيلم «حصاد التغيير» الذي أنتجته مؤسسة «دي مون ريجيستر» ويأخذنا في جولة مفصلة داخل مزرعة إحدى العائلات في ولاية «أيوا». ولفتت الانتباه إلى المجهودات الخاصة التي تبذلها مؤسسة «نايت بروتايب»، الوكالة الرقمية العالمية، بالتعاون مع كلية دراسات الصحافة التابعة لجامعة كولومبيا، لتطوير أفكار للواقع افتراضي، تناسب الصحافة التقليدية، وصدر فيلم وثائقي عن وباء «إيبولا» وكان أول إنجازات تعاونهما المشترك.

وقالت بولجرين إن التقنية الجديدة تواجه عدة تحديات، وبغض النظر عن كيفية تفاعل المستخدم، يجب أن يكون الصوت أصلياً وعالي الجودة وإلا سيأخذ المشاهد بعيداً عن المكان. وعلى الرغم من إمكانية إنتاج شخصيات رمزية ثلاثية الأبعاد تحكي قصصاً واقعية، فإنه من الوارد فشل الرسوم في تقمص الشخصيات الحقيقية.
وفى نهاية المقال، أشارت بولجرين إلى أهمية أن يضع أصحاب الصحف في الاعتبار إطلاق أفكار الواقع الافتراضي في غرف الأخبار، إذ تعرض مع بداية القصة الخبرية القائمة على أساس متين من الصحافة التقليدية، وهو أمر حاسم في صياغة تجربة صادقة.

الألعاب الوثائقية.. حكم على الأحداث

تعتبر كتابة الأفلام الوثائقية نوعاً من فنون العمل الصحفي، وهنا كانت بداية تجارب نونى دي لابينا، التي أنجزت عدة وثائقيات لكن على المنصات الترفيهية وليس الصحفية. حاولت دي لابينا لفترة طويلة نقل إحساس الوجود الفعلي في قلب الحدث عند صياغتها للقصص الإنسانية المختلفة، لكنها فكرت بعد ذلك لماذا لا تضع كل شخص بنفسه في قلب الأحداث والأخبار ليصدر أحكامه الشخصية بناء على تجربة أقرب إلى الواقعية.

أول لعبة قدمت اعتماداً على أفكار دي لابينا كانت «JFKreloaded»، التي تسمح بلعب دور القناص في اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي، واكتشاف كل احتمالات القنص التي كان يمكن أن تحدث. وتسمح لعبة أخرى لمستخدميها بتحديد ما إذا كان وزير الخارجية الأمريكي الحالي يستحق ميداليته العسكرية أم لا، وذلك بتقمص دوره في حرب فيتنام.

«خليج غوانتانامو - GuantanamoBay» كان أولى الألعاب الوثائقية التي أنتجتها دي لابينا على نظارة «أوكولس ريفت» للواقع الافتراضي، وكان التحدي هنا هو خلق مكان لا يمكن الوصول إليه.

اعتمدت دي لابينا على التقارير الصادرة عن المعتقل سيئ السمعة والضجة العالمية المثارة حوله، ودمجت سجلات المعتقلين بتسجيلات صوتية وقدمتها عبر نظارة أوكولس ريفت لترى ماذا سيحدث للاعبين الذين يخوضون نفس تجربة المعتقلين.
وانتقلت دي لابينا من عالم «الألعاب الوثائقية» إلى الواقع الافتراضي في عالم الصحافة التقليدية، عندما عملت على مشروع «سوريا» للمنتدى الاقتصادي العالمي، لتظهر لهم ما كان عليه الوضع عند انفجار قنبلة بأحد شوارع مدينة حلب السورية. وعرض المشروع في متحف «فيكتوريا وألبرت» منتصف العام في لندن، وحصل على أكبر عدد من التعليقات التي شهدها المتحف على الإطلاق في دفتر الزوار، وكان من أفضل ما كُتب: «تبدو هذه الأحداث حقيقة واقعة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"