جدار مائي يحير العلماء

ظاهرة غامضة في خليج مونتيري
14:55 مساء
قراءة 5 دقائق
يشهد خليج مونتيري في ولاية كاليفورنيا حدثاً فريداً وغريباً ويبدأ بالتشكل في عرض المياه جنوب الخليج ثم يتجه شمالاً نحو مدينة سانتاكروز ثم ينعطف الى الجنوب الشرقي قبل الاختفاء في اعماق المياه. إنه ليس كائنات حية أو مخلوقات بحرية ولا يمكن رؤيته بالعين ولكنه يعني في الوقت ذاته الموت أو الحياة للأسماك والحياة البحرية في ذلك الخليج، إنه جدار ضخم متحرك من المياه يتحكم بقوة بالتيارات المائية التي تتدفق متجهة خارج الخليج الى البحر المفتوح للمحيط الهادئ ومن ثم يلتف عائداً الى الداخل، وهذا في رأي علماء الأحياء البحرية له أهميته وتأثيره على الحياة البحرية هناك لأن هذه العملية تشير الى عملية تحكم في المواد الملوثة وتدفقها وتوجيهها وتوزيعها. عند وسط الخليج تقريباً تقدم محطة للطاقة الكهربائية لصرف المياه الفائضة عن الحاجة مما يرفع من متوسط درجة حرارة الخليج بما يكفي لقتل كميات كبيرة من بعض أنواع السمك المحلي، ثم تتدفق هذه المياه الفائضة الى البحر المفتوح حيث يتلاشى تأثيرها وقد تتشكل منها تيارات تنعطف وتدور داخل الخليج لترفع درجة حرارة مياهه.

ويصف علماء الفيزياء والرياضيات ذلك الجدار المائي بهيكل وبناء لاجرانيان المتماسك وذلك في إطار جهودهم ومحاولاتهم لوضع استراتيجية للحد من الاضرار والآثار المدمرة للتيارات المائية المتدفقة من محطة الكهرباء وتقليلها الى أدنى قدر ممكن، ويقولون إن ما يجري في خليج مونتيري من حركة مضطربة للتيارات المائية واحدة من اصعب الظواهر الفيزيائية والطبيعية وأكثرها تعقيداً لأنها تتحكم في كثير من الأمور التي تجري وتحدث كل يوم.

ويشير الباحثون الى وجود مثل هذه الظواهر الغريبة في علوم جغرافيا المحيطات، والطيران وكذلك علوم امراض ووظائف القلب وأن المختصين يواصلون جهودهم ومساعيهم لمعالجة المشكلات الناجمة عن هذه الظواهر.

ويقول جورج هالر عالم الرياضيات في معهد مساتشوسيتس للتكنولوجيا: إن الاضطرابات في التيارات المائية وغيرها كانت أمراً معقداً وصعباً ولا أمل في امكان حلها أو التعامل معها لأنه لم يكن ممكنا توقع حركاتها. لكن الأمور تتغير حالياً حيث أصبح التنبؤ باتجاه حركة التيارات والموجات المائية أكثر سهولة مما يعني امكانية تتبع مسارها في وقت محدد.

ويشير العلماء الى وجود نوعين من الهياكل المتماسكة أو المتحدة من نمط بناء لاجرانيان، الأول: دخاني وهو الأكثر شيوعاً ويجتذب الجزئيات المجاورة والقريبة وهو غير مرئي لكنه يصبح مرئياً بالعين المجردة حينما تتكاثف وتتجمع سحب الدخان الصغيرة حوله والثاني أكثر غموضاً ويبعث على المزيد من الحيرة ويثير الكثير من التساؤلات، لأنه يطرد ما حوله من جزئيات ومكونات صغيرة قريبة.

ويشير هالر الى ان النوع الثاني من هذه الهياكل مسؤول عن كل الحركات المفاجئة التي تسبب اضطراباً عاماً حولها لأنها تتحكم في توجيه التيارات وتحديد وجهة كل منها أما النوع الأول فيمتص التيارات والمكونات الجزئية الصغيرة ويجتذبها ثم يعيد ارسالها واطلاقها على نحو أكثر امتداداً أو اتساعاً مما كانت عليه، ورغم أنه تم التعرف على ظاهرة البناء المتماسك واكتشاف وجودها لأول مرة أواخر الستينات من القرن الماضي إلا أن أحداً لم يحاول فعلياً اثبات وجودها ودراستها من الناحية العملية. ثم جاءت جهود هالر ليقول للآخرين إن هذه الهياكل والجدران تجسيد للهيكل العظمي المادي والملموس للاضطراب وعدم الاستقرار حيث اجرى دراساته في بادئ الأمر على حالة اضطراب ذات بعدين وكان ذلك صعباً بالنسبة لكيفية التعامل مع الماء، ثم جاءت دراسته عام 2005 على حالة ثلاثية الابعاد لتجسد حلمه وشعوره بالرضا عن التجارب العملية التي قام بها. وقام هاري سويني عالم الفيزياء في جامعة تكساس في اوستن ببناء خزان صغير بارتفاع نصف متر اسطواني الشكل ويدور بسرعة معينة وله ثقوب يخرج منها الماء الذي يصبه فيه من أعلى، ولاحظ ان حركة صب الماء من أعلى هادئة وناعمة وسلسة إلا أن حركة خروجه من الثقوب كانت عنيفة ومعقدة وثلاثية الابعاد حيث كان الماء يخرج في كل اتجاه وتتغير حركته مع الوقت بشكل يصعب معه تحديد نموذج نمطي محدد يمكنه اعتباره مقياساً. كما اجرى هالر وسويني تجارب علمية عدة في هذا المجال وخرجا بجملة من الأفكار والنتائج المقنعة لأن حسن استخدام الوقت وتوظيفه وتوزيعه في التجارب يمكن أن يحول الهيكل الطارد لما حوله الى هيكل جاذب مما كان له افضل التأثير والمساعدة في نجاح التجارب التي استخدمت فيها كرات من البوليسترين بحجم حبات الرمل وأشعة الليزر.

وكانت تلك التجارب أول جهد حقيقي لدراسة ظاهرة الاضطراب العنيف وما يجسدها وكيفية استخدام نتائج هذه الدراسات في عمليات توقع وتنبؤ في العالم الحقيقي وأرض الواقع مما أدى الى اكتشاف ما يحدث في خليج مونتيري والذي كانت مياهه وتياراتها وحركاتها موضوع أكبر عدد من الدراسات والأبحاث. كما تم وضع أربع محطات للرادار حول الخليج وتتميز بالترددات العالية لمراقبة التيارات المائية ورصد توجهاتها مما ساعد هالر كثيراً في دراساته وتجاربه.

وفي عام 2003 استخدم باحثون من جامعة برنستون الرادار في رسم بناء لاجرانجيان المتماسك والتقاط صور له وكذلك الهيكل الطارد الذي يتحكم بحركة المواد الملوثة.

ويقول الفيزيائي فرانسو ليكين أحد أعضاء فريق باحثي الجامعة المذكورة إن ذلك البناء يجسد الحدود بين إعادة دوران التيارات والتفافها داخل الخليج والهرب والخروج الى المحيط ويعطي مؤشراً حول أي الطرق التي ستسلكها المكونات والتيارات الجزئية الصغيرة. واستناداً الى المعلومات والبيانات الرادارية التي تم الحصول عليها عام 2003 خلص فريق بقيادة هالر وليكين الى أن هناك خطاً فاصلاً بين التيارات الخارجة من الخليج الى المحيط والتيارات الملتوية التي تدور في الداخل وان الأمر يستغرق اربعة أيام لمعرفة ومشاهدة هذا الخط مما يعني أن استراتيجية التحكم بالتلوث تتضمن الاحتفاظ بالمياه الساخنة وتخزينها في مستودع حتى يقطع الهيكل المائي المتماسك الى الجانب المطلوب حينما يتم اطلاق المياه الفائضة لتتدفق خارجاً الى المحيط. ولهذه الاعتبارات هناك ضرورة لرصد وتتبع عملية الاضطراب ومدى عنفها في وقت محدد. وفي اغسطس/آب الماضي اطلق فريق من الباحثين برئاسة ستيفن رامب استاذ علوم جغرافية المحيطات في الكلية البحرية في مونتيري والمهندسة الميكانيكية نعومي ليونارد من جامعة برنستون مجموعة من الطوربيدات على شكل مركبات الروبوت التي تسير ذاتها في خليج مونتيري وجمعت قدراً كبيراً من البيانات والمعلومات حول حركة التيارات الصغيرة والجزئيات في مناطق مختلفة من مياه الخليج تمهيداً لارسال تلك المركبات لرصد حركة الهياكل المتماسكة. ورغم أن ما قام به هالر وليكين لم يكن دقيقاً تماماً إلا أنه كان كافياً وجيداً للمساعدة في بلورة استراتيجية لمكافحة التلوث أو السيطرة عليه وانقاذ أنواع كثيرة من الكائنات البحرية الحية سواء كانت نباتات أو حيوانات، ولكن حتى تعمل هذه الاستراتيجية وتدخل حيز التطبيق سيحتاج الأمر الى تقنية متقدمة وأكثر تطوراً ولكن التجارب التي تمت في الخليج تظهر لنا حجم التأثيرات والاضرار الناجمة عن اضطرابات المحيط التي يمكن التنبؤ مسبقاً بوقوعها وما يمكن ان يحدث مستقبلا.

كما يواصل الباحثون جهودهم لرصد وتتبع حركات هياكل مماثلة لهيكل لاجرانجيان حيث حصل هالر على منحة من سلاح الجو الأمريكي لإجراء دراسات وتجارب مماثلة للاضطرابات المحتملة في الاجواء في ضوء ما يقوله الباحثون عن وجود مناطق في الاجواء تحتوي على موجات وتيارات هوائية ضارة وربما مدمرة لا يمكن لاجهزة الرادار العادية رصدها أو اكتشافها لأنها ليست جزءاً من عالم العواصف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"