رياح الشرق تهب على عالم المعرفة

03:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

العلم أبو التكنولوجيا، وهو المصدر الأساسي للقوة. ودراسة إنتاج المعرفة العلمية في الدول، من خلال منشوراتها العلمية التي تقاس بتقنيات البيبليومترية، تقدم صورة عن تطور العالم الذي نعيش فيه. المقارنة التي أجراها «سكيماغو»، ما بين العامين 2000 و2014، تدلنا على ما يحدث في مجال جيوبوليتيك العلم منذ بداية القرن الجاري وتساعدنا على فهم التحول الذي يصيب صناعة المعرفة على المستوى الكوني. و«سكيماغو» هو موقع إلكتروني متخصص بالبيبليومترية يفتح بوابة تتضمن تصنيف المجلات العلمية ومؤشرات البحث العلمي، على أساس البلدان والحقول الموضوعية المتنوعة. معامل «سكيماغو» لترتيب المجلات هو مقياس معتمد للأثر العلمي للمجلات على مستوى العالم.
وبحسب هذا الموقع فإن رياحاً شرقية عاتية تهب على المختبرات العالمية. في عام 2000 جاء العملاقان الديمغرافيان الآسيويان، الصين والهند، ليهزا هيمنة الثلاثي القديم -الولايات المتحدة وأوروبا واليابان - على صناعة المعرفة، بعد أن انطلقا من لا شيء تقريباً في ثمانينات القرن المنصرم.
في تصنيف «سكيماغو» لعام 2014 انقلب جيوبوليتيك العلم رأساً على عقب. فقد ثبّتت الصين نفسها (452 ألف وثيقة علمية منشورة أي عشرة أضعاف ما كانت عليه في العام 2000) في المركز العالمي الثاني خلف الولايات المتحدة (552 ألف وثيقة علمية منشورة) وقبل بريطانيا (160 ألف وثيقة). رياح الشرق هذه لم تأت من اليابان (120 مليون نسمة) الذي بقي لفترة ممتدة في المركز الثاني خلف الولايات المتحدة لكنه تراجع، في عام 2014، إلى المركز الخامس خلف ألمانيا (80 مليون نسمة) على الرغم من الفارق الديمغرافي بين البلدين.

هناك في التصنيف خاسرون ورابحون. من الرابحين كوريا الجنوبية التي أضحت في المركز الثاني عشر بعد أن كانت في الخامس عشر. البرازيل صعدت من السابع عشر إلى الثالث عشر، وتركيا من المركز الخامس والعشرين إلى التاسع عشر. من الخاسرين بولونيا وبلجيكا كلاهما أصيبت جهودها البحثية بنوع من الخمول وروسيا القوة العظمى التي لم تعد تعرف كيف تمول وتشجع نظامها العلمي رغم الطموحات الجيوبوليتيكية لرئيسها بوتين.

التنافس العلمي محموم ومتسارع في العالم، ولا مجال فيه للتوقف ولو لبرهة لالتقاط الأنفاس.. كذلك فإن الزيادة الكمية للإنتاج العلمي لا تعني التقدم في لائحة التصنيف العالمية. على سبيل المثال لا الحصر: بين العامين 2000 و2014 زاد الإنتاج العلمي الفرنسي بنسبة أربعين في المئة من حيث الحجم، أي من ستين ألفاً إلى مئة ألف وثيقة. رغم ذلك تراجعت فرنسا من المركز الخامس إلى السابع عالمياً.

هذا السباق صحي ومفيد للإنسانية، لاسيما عندما ينتج عنه تزايد في عدد العلماء وفي فعالية البحث العلمي. لكنه في المقابل قد يحبذ الفساد، مثلاً عندما يلجأ الباحثون إلى نشر عدد كبير من المقالات العلمية المجتزأة تحت ضغط التقدير البيبليومتري الكمي، فضلاً عن فضائح كثيرة تهز، بين الفينة والفينة، القطاعات العلمية والبحثية نتيجة الغش والتكرار أو الانتحال، ما يعني بأن الضغط البيروقراطي يمكن أن ينتهي بكوارث أخلاقية حقيقية.
لذلك فإن قياس التطور في عالم المختبرات بالتركيز على الكم يبقى ناقصاً من دون قياس النوعية. وهنا فإن المثلث المذكور أعلاه لا يزال متقدماً رغم أن هذا التقدم يتباطأ لمصلحة صعود حثيث للصين، بحسب تحليلات المنشورات الصينية في المجلات العلمية الأساسية في العالم، وتحديداً منذ عام 2013.
الصعود الصيني واضح في مجال براءات الاختراع الصناعية. في عام ٢٠٠٣ لم يكن لدى الصين أكثر من ١٥٠٠ براءة اختراع، أي أقل مما لدى «إسرائيل» أو تايوان. في العام 2012 أصبح لدى الصين 18800 براءة جديدة قبل أن تتقدم ب 3700 طلب لبراءة جديدة، بحسب المكتب الأوروبي لبراءات الاختراع. هذا التقدم اللافت والسريع ينعكس إيجاباً على الإنتاج الصناعي في المجالات التكنولوجية جد المتقدمة. يكفي مثال واحد للبرهنة على ذلك، وهو لجوء بريطانيا نفسها إلى أجهزة الطرد «هوالغونغ» (التنين) الصينية من أجل بناء مفاعل مركزي منتج للطاقة الكهربائية في منطقة سيزوال.
بالطبع لا تكفي المعرفة التي تنتجها مختبرات البحث العلمي، إذ ينبغي تحويلها إلى نشاطات صناعية إنتاجية، وهذا يعتمد على وجود سياسة صناعية فعالة، فهناك دول تنتج مختبراتها الكثير من المعرفة العلمية ولكن سياسات حكوماتها ونخبها الاقتصادية تعجز عن تحويل هذه المعرفة إلى منتجات علمية.
وللأسف لا بد من الملاحظة أنه ليس هناك من دولة عربية واحدة في تصنيف «سكيماغو». مختبراتنا ليست في السباق العالمي المحموم على إنتاج المعرفة العلمية، وحكوماتنا لا تمتلك سياسات تهتم فعلياً بالبحث العلمي والذي يكلف العالم العربي على وجه العموم ما متوسطه 0.03% من الناتج الداخلي الإجمالي ( مقابل 3% للولايات المتحدة أو «إسرائيل»)، ونخبنا الاقتصادية تسيطر عليها النزعة الكومبرادورية واقتصاداتنا ريعية أكثر منها إنتاجية. هذا رغم أن الإنسان العربي موجود في قلب الجيوبوليتيك العلمي، لكن في مختبرات الغرب حيث يسجل العلماء من ذوي الأصول العربية الكثير من براءات الاختراع في كل الميادين تقريباً من الطب والصيدلة إلى الهندسة والفضاء والعلوم الجينية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"