ثقافة الصدق

05:03 صباحا
قراءة 5 دقائق

كلما تأملت ما يدور حولنا في مصر والمنطقة العربية استدعى ذلك في ذهني مباشرة شعوراً عميقاً بغياب فضيلة الصدق لأن ثقافة الكذب أصبحت شائعة في كثيرٍ من جوانب حياتنا، بل إنني لاحظت أحياناً أن البعض لن يضار إذا قال صدقاً وذكر الحقيقة ولكنه بالتعود التلقائي يقوم بتحريف ما رآه وتزييف ما يعلمه لأن طبيعته جلبت عليه خصائص يصعب توصيفها، ففيها مزيج معقد من الخوف والتذاكي ومحاولة التفرد بالمكاسب وضرب الكفاءات التي تحيط به، والإطاحة بأي مشروع شخصيٍ ناجح لأنه يريد أن يكون هو وحده مستمتعاً بما يتطلع إليه، رافضاً الاعتراف بما لدى الغير من قدرات وخبرات .

لا أقول إن كل الناس على هذه الشاكلة ولكنني أزعم أن تعبير حزب أعداء النجاح الذي صكَّه الإعلامي القدير مفيد فوزي ينطبق إلى حدٍ كبير على كثير من مشاهد حياتنا المعاصرة، إذ إن ثقافة الصدق لم تتمكن منَّا بعد، ولم تشع في بلادنا، ولعل أول درجات الصدق هو الصدق مع النفس، أي أن يكون المرء أميناً مع قدراته بحيث تتناسب مع طموحاته وأن يتوقف عن عرقلة مسارات الغير، وأن يدرك أن الاجتهاد هو السند الوحيد لكي يشق الإنسان طريقه لإنجاز مشروعه الشخصي بنجاح واقتدار . وسوف أقدم الآن عدداً من المشاهد التي عاصرتها على المسرح الدولي، وهي تؤكد أن الكذب مأساة لأنه مرفوض دينياً وأخلاقياً وإنسانياً، فالكاذب بالضرورة إنسان يريد أن يقفز أمام من يسبقه، وأن يطيح بحقوق الآخرين معتمداً على التآمر والنفاق والخديعة، وكلها مرادفات للكذب بخصائصه المعروفة ونتائجه الممقوتة، فالكاذب يعيش محنة القلق الدائم والشعور بعدم الأمان ونقص الثقة في الذات، لذلك سوف نستعرض معاً بعض الأحداث الدولية الشهيرة التي أتذكرها والتي آمنت منها أن الكذب جريمة كبرى تضرب المصداقية وتعصف بالاحترام وتهبط بالإنسان إلى الدرك الأسفل وقد تحيله إلى حطامٍ في النهاية، دعنا نتذكر:

أولاً: عندما هبطت إلى العاصمة البريطانية عام 1971 وجدت أزمة محتدمة حول زعيم حزب الأحرار جيرمي ثورب ورأيت أن الرأي العام البريطاني يقف ضده بشدة مع أنه ينتمي بصلة قربى لصاحبة الجلالة الملكة وقيل يومها إنه كان على علاقة بشاب يعمل كموديل ثم اختلف الاثنان فظننت أن تهمة السياسي البريطاني الكبير هي الشذوذ الجنسي الإيجابي كما هو واضح من تاريخه، ولكنني اكتشفت أن المشكلة التي أطاحت به ليست أبداً مسألة الشذوذ التي يعاني منها كثير من الساسة الأوروبيين ولكن جوهر المشكلة أن ثورب قد أنكر كذباً بعض وقائع الخلاف مع صديقه المثلي والتي كادت تدفعه إلى التفكير في قتله للخلاص من جسم الجريمة ويومها اكتشفت نسبية القيم فالكذب يقف على قمة هرم الرذيلة بينما يبقى الشذوذ عند السفح أمراً مقبولاً بل وشائعاً، وعندما فقد ثورب موقعه في زعامة حزب الأحرار حينذاك لم يقل أحد أن شذوذه هو سبب فقدانه لموقعه السياسي المرموق، ولكن الإجماع كان على إدانة كذبه الذي أدى إلى الإطاحة به .

ثانياً: مازلت أتذكر منظر الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون على شاشات التلفزيون يوم استقالته وهو يبدو مهزوماً كسير النفس يستجدي الشفقة والسبب ببساطة هو أنه كذب وهو يشغل ذلك المنصب الرفيع، لذلك سوف يظل مقترناً في ذاكرة التاريخ الإنساني بجريمة ووترجيت التي كان يتنصت فيها حزبه الجمهوريون على مكالمات قيادات الحزب الديمقراطي أثناء فترة الحملة الانتخابية! ولقد فقد نيكسون تاريخه اللامع وفتوحاته السياسية الكبيرة نتيجة تورطه في جريمة الكذب، ونسي له شعبه كل إنجازاته خصوصاً في السياسة الخارجية وتذكروا له فقط أنه كان رئيساً كاذباً وبطلاً لفضيحة ووترجيت .

ثالثاً: لقد تابعنا في أواخر تسعينيات القرن الماضي المشاهد المتتالية لمسلسل مونيكا والرئيس الأمريكي اللامع بيل كلينتون عندما اتهمته تلك المتدربة الصغيرة في البيت الأبيض بأنه حاول إقامة علاقة معها، كما امتلكت بعض الأدلة التي تثبت صحة ادعائها، ويبدو أن ذلك كان أمراً مدبراً للإيقاع بذلك الرئيس الأمريكي صاحب الشعبية والكاريزما لفترتي رئاسة متتاليتين، وظن الناس أن نهاية حياته السياسية قد حانت، ولكن الرجل بذكائه الحاد آثر اللجوء إلى درجة من الصدق الملتوي إذا جاز التعبير ولم يقع في حفرة الإنكار الصريح والكذب الكامل، ونجا بذلك من آثار مؤامرة كبرى ضده وأكمل مدة رئاسة ثانية، ولو أنه كان من الحمق مثل بعض سابقيه مصراً على الكذب والمرواغة لكان مسار القضية قد تغير في غير صالحه .

رابعاً: أتذكر جيداً عندما كان يطلب مني مصري أو مصرية التوسط لدى إحدى السفارات الغربية للحصول على تأشيرة زيارة لواحدة من تلك الدول أن وساطتي كانت غالباً ما تنجح، ولكنها كانت تخفق تماماً إذا ما اكتشفت من خلال توصيتي للسفير الأوروبي أو القنصل الأجنبي أن طالب التأشيرة قد كذب في بعض بياناته متوهماً أن أحداً لن يكتشف أمره بينما تكفلت الأجهزة الحديثة وفي مقدمتها سجلات الكمبيوتر بتقديم المعلومات الدقيقة حتى ولو كان ذلك المواطن الفهلوي قد استبدل جواز سفره وغيَّر في بعض بياناته، فتكون النتيجة دائماً هي إخفاقه في الحصول على التأشيرة، بل وربما حرمانه الأبدي من زيارة دولة معينة! لأن جريمة الكذب في أدبيات العقل الغربي قاتلة، ولا تعطي لصاحبها فرصة للفكاك من عواقبها مدى حياته!

خامساً: إن التطور التقني والتقدم العلمي والإنجازات الباهرة في مجال تكنولوجيا المعلومات قد جعلت الوصول إلى الحقيقة أمراً يسيراً فعندما يتصور المرء أن ما يفعله سوف يكون خافياً ويضيع في زحام الحياة إلا أنه سوف يكتشف أن عصرنا الحالي لا يستر العورات ولايخفي الجرائم فكل شيء يبدو واضحاً كالكتاب المفتوح فحتى الحياة الشخصية لم تعد لها حرمتها على الإطلاق، كما أننا في عصر لا ينعم فيه الكاذبون بما يريدون، فالصدق كالخط المستقيم هو أقصر المسافات بين نقطتين .

. . هذه روايات وملاحظات رأيت أن أسوقها اليوم وأنا مؤمنٌ بأن مشكلتنا عرباً ومصريين أننا نقول ما لانفعل ونفعل ما لا نقول! وأن الكذب بتوابعه المعروفة من ادعاء ورياءٍ ومغالطة هو جزءٌ أصيل من ثقافتنا توارثناه من عصور القهر والظلام حتى استوطن بلادنا، ذلك الخوف الغامض من الحقيقة مع غياب التعود على الصدق واللجوء دائماً إلى الأعذار الكاذبة والقصص الملفقة والأخبار المشبوهة، إنه أمر محزن أن يواجه مثقفونا ومفكرونا نفس ذلك الداء حتى تساوى فيه البسطاء مع الأغنياء . . إنها محنة حضارة وأزمة أخلاق وخطيئة عصر، ولن تستقيم الأمور إلا إذا توقفنا جميعاً عن الكذب واحترمنا الحقيقة مهما كانت مؤلمة وعشنا في ظل ثقافة الصدق حتى ولو كان الثمن غالياً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"