العلاقة الفرنسية - الأمريكية الجديدة

05:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

لا شيء يجمع ما بين الرئيسين الفرنسي ماكرون والأمريكي ترامب. الأول شاب عولمي براغماتي تقدمي متفائل، وقارئ نهم، والثاني عجوز قومي شوفيني تشاؤمي ولم ينه كتاباً واحداً في حياته. العلاقة بينهما تنم عن مفارقة وخلف مظاهر الود والصداقة التي يبديانها حيال بعضهما يختبئ الكثير من النفاق والتناقضات.
لكن ما يجمع بينهما أنهما أتيا من عالم المال والأعمال من دون خبرة في السياسة لا سيما الدولية منها.
زيارة ماكرون إلى واشنطن هي الأولى من نوعها لرئيس غربي منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، علماً أن كل الرؤساء الأمريكيين السابقين زارهم زعماء أجانب خلال السنة الأولى من حكمهم. وقد اختار ماكرون الزيارة قبل ١٢ مايو/ أيار موعد اتخاذ القرار الأمريكي بالبقاء أو الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
تمت الزيارة في لحظة صعبة جداً لماكرون الذي تنهار شعبيته ويواجه برنامجه الإصلاحي إضرابات تعم فرنسا، في وقت تتعثر فيه خططه لتنشيط الاتحاد الأوروبي. وكان قد قدم الكثير من البراهين على نيته التقرب من واشنطن، إذ إنه شرع في استخدام لهجة قاسية ضد إيران منذ أشهر قبل أن يشارك في الضربة العسكرية الأمريكية لسوريا في ١٤ إبريل/ نيسان المنصرم. وأعلن غير مرة عزمه على السعي لتوحيد الغرب في مواجهة التمدد الروسي والإيراني، كما أنه أبدى معارضة خجولة لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لكنه في المقابل رفض طلب محمود عباس الاعتراف بالدولة الفلسطينية كرد على الإجراء الأمريكي.
وبالتوازي بعث بإشارات انحياز ل«إسرائيل» كان آخرها إعلانه أن «معاداة الصهيونية هي الشكل المعاصر من العداء للسامية».
بنى ماكرون حياته المهنية عبر التزلف والتقرب من شخصيات سياسية مثل الرئيس السابق هولاند وجاك أتالي مستشار فرانسوا ميتران الأسبق وكبار رجال المال مثل مصرف روتشيلد، واستخدم هذه العلاقات بدهاء قبل أن يتجاوزها فيغدو رئيساً للجمهورية.
وهو يستخدم مع ترامب الأسلوب نفسه، إدراكاً منه أنه يضعف أمام من يشعره بأنه مهم، وهي استراتيجية جيدة لتطويع ترامب الذي يعاني من خواء وضحالة فكرية، على حد قول لوران كولنز الصحفي في «النيويوركر». لكن «الواشنطن بوست» قالت بأن لا أحد مقتنعاً بأن استراتيجية ماكرون هذه ستؤتي أكلها، فوصول «الصقور» إلى الإدارة الأمريكية، أمثال جون بولتون وبومبيو، ليس من شأنه مساعدة باريس التي لا تقف على خطوط مواجهة في علاقاتها الدولية.
استقبل ترامب ماكرون بطريقة فيها الكثير من الاحتفاء في زيارة دولة أرادها «تاريخية» في العلاقة بين الرجلين والدولتين. لكن الصحافة الفرنسية، التي تمقت ترامب، علقت على صور اللقاءات وتكرار القبل وشد الأيادي بين الزعيمين بالقول إنها مضحكة وتكشف عن خضوع ماكرون لترامب ومحاباته المفرطة له. وقالت «لوموند» بأنه لن تمحى من ذاكرة الفرنسيين صورة ترامب يمسك بيد ماكرون ويجره خلفه كطفل صغير، فالفرنسيون شعروا بالإهانة واعتبروا أن ما فعله رئيسهم كان مسيئاً لصورة بلادهم.
لقد ذهب ماكرون إلى واشنطن في محاولة لإقناع ترامب بالعودة إلى اتفاقية باريس حول المناخ، لكنه سمع رفضاً واضحاً رغم كل مظاهر الصداقة والاحتفال. كما أراد إقناعه بأن الاتفاق النووي خير من لا اتفاق وبأن الهدف هو منع إيران من الحصول على السلاح النووي، وإلا فقد تغدو واشنطن «عرابة» هذا السلاح كما سبق وحذر سيرغي لافروف. ورغم المقابلة التي اختارها ماكرون على شاشة «فوكس نيوز» المحببة إلى قلب ترامب والتي دعا فيها إلى توحيد الغرب لمواجهة روسيا وإيران وإلى رقابة دولية مشددة على برنامج الصواريخ البالستية مع التهديد بعقوبات دولية إذا لم توافق إيران على ذلك، فإنه لم يحصل من ترامب على شيء يذكر.
فقط ربما في الملف التجاري نجح ماكرون في إقناع ترامب بتثبيت أو تمديد الإعفاء الأمريكي لأوروبا من الرسوم الجمركية على تصدير الألمنيوم والصلب. وهذا البعد يعزز طموح ماكرون بأن يغدو الناطق الرسمي باسم المصالح الأوروبية والمدافع عنها لدى واشنطن.
مارس ماكرون براغماتيته المعهودة. انتقد روسيا ودعا الغرب للتوحد ضدها لكنه اتصل ببوتين قبل ذهابه إلى واشنطن وسوف يزوره في موسكو عما قريب. ندد بالتوسعية الإيرانية لكنه قال بأنه مستعد لزيارة طهران إذا تطلب الأمر. لكنه لم يحصل على شيء يذكر من ترامب، فماذا سيفعل إذا انسحب هذا الأخير من الاتفاق بعد إعلان الصين وروسيا أنهما لن تسمحا بإلغائه ولا تعديله وبعد أن أعلنت لندن وبرلين تمسكهما به؟ هل ينضم اليهم فيتمكن عندها من الثبات على خط السياسة الخارجية الفرنسية التقليدية (الديغولية - الميترانية) فيبقى «حليفاً وليس تابعاً للولايات المتحدة» كما كان يردد الجنرال ديغول؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"